شبكة قدس الإخبارية

رسائل لا تصل (11): زهايمر

رحمة حجة

لأجل كل الرسائل الذاهبة مع الريح.. وتعويضًا عن كل التأويلات الموجعة لعدم تلقي أيّ رد، كانت ”رسائل لا تصل“، موئلًا أسبوعيًا للباحثين عن مسافة البوح بين خطوات من الخوف والتردد.

واسعة هي الأرض، ومكتظة الشوارع التي تسير بي.. إلى أين؟ لا أدري.. أبحث عنك يا ولدي، وأبحث عن أختك خديجة بين الوجوه، ولا أجدكما. أين أنتما عنّي وأين أنا منكما؟! عائشة.. إبراهييييم.. سعااااد.. محمود.. أين أنتم؟ ذهني تشتت بين المّارة الذين يلصقون بوجهي النظرات الغريبة، أصرخ .. وأشتمهم "يا ابن***"، "يا ***" .. وامرأة تقترب وتطلب مني أن أخفي شعري لأن "الإشارب" تهادى على كتفي أثناء صراخي.. البارحة جارتنا كريمة قالت لــ"كنتها" إن أولاد فوزية تركوها، ومنذ خمسة أعوام لم تصلها أي رسالة منهم أو حتى مهاتفة، تشمت بي هذه الجارة، لكني أقرا رسائلكم دائمًا، وفي العيد الماضي اتصل علي إبراهيم وقال إنه سيأتي ليأخذني معه إلى الكويت، وأنا أنتظره. وأم حاتم ابنها في الكويت أيضًا، لكن زوجها مات بالسرطان، وخديجة كانت تقول إنه مرض معد، لأن أبو علي أغلق دكانته وبعدها الحارة أصبحت مريضة، فقد مات الجميع.. وبائع الحليب الصغير حسن دهسته سيارة بينما كان يركض خلف "قنينة" وقعت منه في الشارع، لكن "الله يسامحه" فقد انكسرت جميع "القناني" خلفه، من سيبيع الحليب ويسقي البقرة في دارهم الآن؟ اتصل إبراهيم وقال .. لا بل حدثني عن أولاده لكن لم ينقل لي سلامهم، ربما كانوا في المدرسة. الحياة صعبة يا سعاد، والناس تبعث لي الأكل يوميًا، لكنه تعفن في الثلاجة، أنا آكل وحدي، والباقي أتركه للشياطين.

لم هذا المسجد مكتظ؟ اليوم ربما الجمعة.. لا فالشيخ لم يقرأ بصوت عال الصلوات. "أنداري"! لم هذه المرأة تنظر إلي هكذا بينما أحدثكم؟ إنها لا تراك يا عائشة وأنت تلبسين "مريول" المدرسة وتقبلين يديّ قبل الذهاب صباحًا، هل تقبل بناتك يديك؟ هل ستغيبين عن فكرهن في مشاغل الحياة كما غبتُ أنا اليوم؟ أسمع امرأة "توشوش" رفيقتها بينما أنا آكل "ساندويشًا" أعطاني إياه صاحب محل، وتقول "شكلو مالهاش أهل؟.. الله يحسن ختامنا".

هذا ما يتمناه البشر جميعًا، حسن الختام. يومها حين هجم اليهود على قريتنا كنت في التاسعة من عمري، نسيتني أمي حين هربت وأنا كنت ألعب مع الصبية في الحارة، لم يخبرنا أحد يومها بضرورة الهرب، لكن ما إن رأينا الناس تركض حتى ركضنا، وجد جميع الأطفال أهلهم إلا أنا، وعادل ابن صاحب الدكان كان يحب خديجة، لكن "الله يسامحه أبوك" يا محمود رفض تزويجه لها، فدست لنفسها السم في الطعام وماتت، وحينها قلنا إن عقربة لسعتها، كي لا "ننفضح" وانتهى الأمر. لكن منذ ذلك اليوم، ودمي بارد في عروقي لا تشعله أي فرحة.

الدنيا أصبحت ظلامًا، وحتى القمر غائب هذه الليلة، ولا أعرف الساعة، فمنذ رحل أبوكم لم ألبس ساعة. الشارع خال.. والطريق إلى البيت تعبٌ فوق تعب، وأنا أطوي المسافات باللهاث. لااااا.. الضوء أسرع مني.. الضوء أسرع مني.. إبراهيم، سعاد، محمود عائشة، خديييييجة.. أبعدوني عن الطريق، العجلات تقف فوق صدري، ولا أحد هنا يساعدني.. السيارة تذهب. أنا وحدي في الشارع، لون أحمر على رجلي وعلى يدي.. خديييجة .. خ..د..ييجة. خ..د..