لأجل كل الرسائل الذاهبة مع الريح.. وتعويضًا عن كل التأويلات الموجعة لعدم تلقي أيّ رد، كانت ”رسائل لا تصل“، موئلًا أسبوعيًا للباحثين عن مسافة البوح بين خطوات من الخوف والتردد.
كل ارتباك اللحظات الأولى قبل انطلاق الرحلة إلى يافا، لم يمنعني استغلال الفرصة كي ألتقي بها، تلك التي كتبتِ بدمكِ حروف الشوق إليها، وكانت جلّ أمنياتك استنشاق نسيمها البحري، وما زلتُ لا أصدّق أنني في الطريق إليها، وأنني بعد نحو ساعة ونصف بعيدًا عن حاجز قلنديا سأتصل ببحرها وأناجيه.. وأتحدث إليك يا دلال!
كنت أعددتُ قميصًا خاصًا كتبتُ عليه آخر عبارة في رسالتك إلى أبيك "سأصير بنتًا للبلاد" لكي تصيري بعدها عروس يافا، وامرأة البلاد الخالدة. وأردتُه في حينه أناقة اللقاء الأول بالبحر، كي تكوني معي على الدوام، لكنّ الزيارة في المرة الأولى لم تنجح، واكتفيت بأن أسير وإياك في جنين.
هذه المرة، لم يكن مهمًا ما الذي سأرتديه، فليس ما يقربني إليك هو الصورة والكتابة على القميص، إنما أشياء كثيرة، أختصرها في قلبي وحزني الذي اعتراني منذ عام.. وأسير إليك سير المشتاق لروحه.
الطريق من قلنديا إلى يافا، محفوفة على جانبها الأيمن -ذاك الذي أجلس فيه قرب النافذة- بلغة العدو والأشجار، وفي كثير من الأحيان مشاريع مبانٍ سكنية ومتاجر. الإسرائيليون مطمئنون جدًا إلى المستقبل، وأنا لا أبصرُ شيئًا في اليسار، حيث يبدو مظلمًا بسبب الستائر، لذا أكتفي بنقيضه في تحرّي المشهد، لعلّي أستطيع نقل التفاصيل إليكِ بــ"الحذافير".
لا أعرف المناطق التي نمر بها، حيث أراها للمرة الأولى، لكني أشعر كم هي مُستَلبة، وكم ضيعناها طيلة هذه السنوات، ليحفر فيها العدو تاريخًا آخر، كما يحفر الجبال لشواهق مبانيه.
نعم ضيّعناها، حيث لم تعد "استقلالية القرار الفلسطيني" محمية بــ"بنادق الثوار" كما أوصيت قبل 35 عامًا، أصلًا فقدنا "الاستقلالية" ذاتها، فمرةً يكون القرار قطريّ وأخرى أمريكي، وبعد حين سعودي، أما الذي يحدد فهو المبلغ المالي الذي تضعه إحدى تلك الدول في خزينة "الدولة الفلسطينية" التي توزع الصدقات على موظفيها منقوصة أو متأخرة، لا بأس، المهم أن توزعها!
لا داعي للخوض في التفاصيل، أتدرين؟ صرت أمقتُ السياسة، وكل ما يتعلق بالسياسيين الذين يقامر بعضهم بالبلاد، وأصبحت المفاوضات "روليتهم" الذي يراهنون فيه على ذات الخيارات الفاشلة! والبعض الآخر ما زال يظنّ نفسه حقًا في "تيّار المعارضة" دون أن يدري الفرق بين "المعارضة" و"الاعتراض".. وبعض الظن كما يُقال "إثم".
أما البحر...
وما أقول عن البحر يا عزيزتي؟ هو عالمٌ بحاله، له في يافا طقوس ومواجع، أحاول ترصُدها بعينين لا تبصران سواكما.
ولأننا لم نعتد أن يكون لنا بحر، كان من الغرابة أن أرى طفلًا في الحادية عشرة من عمره يعدّ بنفسه الطعم لاصطياد السمك، ورؤية أطفال الصهاينة يلهون على الرصيف المحاذي له بعجلاتهم الكهربائية ضمن جماعة منتظمة، في الوقت الذي تنتشر في الجانب البعيد له على الأرضية العشبية عائلات عربية تقضي وقتها "تؤرجل"، ويرتاح البعض إلى رمال الشاطئ فقط يمعنون النظر في الأمواج والمارّة، ومنهم من يتمشى إلى جانب كلبه أو أطفاله.
ومراقبة الأمواج بالفعل لها متعة خاصّة، فأنت تقدرين مع طول النظر متى سترتفع موجة ومتى ستهدأ عن مستواها. وهل ستصل إلى قدميك أم تنسحب دون ذلك. بينما الأشهى لهاتين القدمين هو الملامسة اللطيفة الدافئة للزَبَد، شعور جديد أكتسبه هذا المساء من خلال التجربة، وأعرف أنك جرّبت ذلك في شواطئ لبنان، لكن أحلامك ظلت ناقصة دون الشعور الحقيقي في يافا.
اليوم يا دلال حاولتُ جهدي أن أكون الأسعدَ بين كلّ المشاركين لأجلي ولأجلك، وأيضًا تحقيق بعض الأماني التي ستربطني عمرًا آخر بالبحر، وربما ستروقك. حيث تخيلت أنك هناك الآن، على شاطئ يافا، تشاطرينني سماع ذات الأغاني من صوفيّها إلى العائدة منها للستينيات، ترقصين معي دون أن يراقبنا أحد، وتدورين وتصرخين حبًا للبحر، أيضًا، دون أن يسمعنا أحد. وتقتربين منه وأقترب، ولأنك أشجع مني تقتربين أكثر، لكني أخاف الغدر الذي سمعتُه عنه وأخشى على نفسي الغرق، فليس اليوم هو المناسب للموت، هذا ما أقرره.
ولكن الأشياء الجميلة في بلادنا كعادتها، محاطةٌ بالوجع. فهذه المطاعم الصهيونية المنتشرة على شارع البحر تذكركِ بحزن صيادي يافا، الذين اشتكوا مرارًا من تضييق المساحة على مراكبهم، وتكبيلهم في فترات الصيد، ويحضرني صوت صيّاد رأيته عبر إحدى الشاشات يقول "اللي قضى عمره بالبحر بعرفش يطلع منه.. بعرفش يشتغل غير صياد".
أعدك يا صديقتي الرائعة بأنني سأكتب لك مجددًا، من يافا ثانيةً ومن حيفا والناصرة وبيسان وصفد، وغيرها مما يمنعها الاحتلال البغيض عنّا، ويسمح لنا بزيارتها بين الحين والآخر بتصريح يحمل عبارة "الدخول إلى إسرائيل".. لا يهم، فأنا كما كثيرين، ندرك أن البلاد ليست صورة، والمأساة ليست أسطورة، والشعب المهجّر ليس وحيدًا، والصامد ما زال صامدًا في وجه تيارات التعايش والتكيّف، ويتكلم العربية ويرفع علم فلسطين في كل أيّار وآذار وضد أيّ "برافر". فاطمئني!