شبكة قدس الإخبارية

رسائل لا تصل (8)

رحمة حجة
لأجل كل الرسائل الذاهبة مع الريح.. وتعويضًا عن كل التأويلات الموجعة لعدم تلقي أيّ رد، كانت ”رسائل لا تصل“، موئلًا أسبوعيًا للباحثين عن مسافة البوح بين خطوات من الخوف والتردد.  حين رأيتها، أحزنتني أكثر من القدس نفسها.. فهل تصدّق؟ إنها الخليل. وأنا أعرف كم تحب القدس، حيث لم تفارق صورة المسجد الأقصى -وإن لم تكن بتلك الجودة الفنيّة- صفحتك الشخصية في موقع الـ"فيسبوك" لمدة عامين كاملين، أنا لا أتخيّل نفسي أصمد أسبوعين أمام صورة لي دون أن أغيّرها، فما بالك بعامين؟! في زمن مضى، كانت كل صورة للأقصى تذكرني بك، وعندها أبتسم أمام هذا الكم الكبير من الشوق "يا غادة.. إنه ليس صلاح الدين"! الخليل موضوع مختلف بعض الشيء، وإن كان يعكس ذات الوجه القبيح للاحتلال، وللمفاوضات، ولتقسيم البلاد بإمضاء أيادٍ فلسطينية. تتمشى في شوارع وسوق البلدة القديمة، لترى التاريخَ يتآكل خلف أصفاد الاحتلال. المباني آيلةٌ للسقوط، والبضائع يبدو عليها التعب. تمرّ عن بيوت إحدى الحارات التي أصبحت ممرًالمستوطنة، فترى الصدأ باد على "درابزين" شُرفاتها، ولا ينبت في القوارير إلا الصبّار، أو لا شيء. والنوافذ عاريةٌ من زجاجها، تدخلها الريح كما يغزوها الغبار أو المطر. الأبواب مختومة، ليس بالشمع الأحمر، إنما بالحديد والنار، فلا يعود إليها من أهاليها أحد. والمحال المجاورة كذلك، مغلقة -كما علِمت- "بأمر عسكري". وهذه الحارة تدخلها عبر حاجز عسكري، يفتش الحقائب كما يتحرّى أرقام الهويات، والحاجز مختلف عما تعودنا عليه، إذ يبدو كغرفة على شكل باص، تفصل بين شارعين، تمامًا تفصلهما، فلا تستطيع المرور إلا عبرها، وعبر ما بداخلها من الآلة التي تُحدث الضوضاء لمجرد إحساسها بالمعادن. لا أنسى بعض البيوت المسكونة من ضمن العشرات التي هُجّر منها أهلها، لم ينس أصحابها زراعة الورود، وكسر الوحشة في الشارع الذي تتدلّى فوقه، إضافة لإضاءة متواضعة من أشكال الأهلّة والنجوم، الخاصّة بشهر رمضان المبارك. عبرنا الشارع في تل الرميدة، حيث روى لنا شاب عن نضالهم من أجل استعادة البيت الذي استقبلنا فيه من المستوطنين، وكم كلفهم رفع العلم الفلسطيني على أحد جدرانه، إذ يحاذيه معسكر لجيش الاحتلال. صحيح كنّا نسمع عن الاستيطان وتهويد مدينة الخليل، وكيف يتجاور أهلها بغير حق مع المستوطنين، وعن المضايقات والمظاهرات داخل الشوارع وبين الأزقة، وعن الدماء التي سالت من أجل فتح شارع الشهداء.. لكن، يا عزيزي، ستظل جاهلًا فيها إن لم تزرها. إن لم تتحسس بذاكرتك صوت الرصاص المصوّب نحو البيوت وقلوب الشبّان.. إن لم تشعر حرارة الدماء التي سالت على إسفلت الشوارع، ولم يتوقف نبضك أمام ذاكرتك حول المباغتات الليلية التي نشاهد بعضها على "اليوتيوب"، حيث يجرّ الجندي الشبان، ويعتدي بالضرب على الأمهات اللاتي يحاولن اقتلاع أبنائهن من جوف "الجيبات" العسكرية التي تنوي اقتيادهم إلى المعتقل. هل تتذكر المجرم باروخ جولدشتاين؟ راجع التاريخ معي الآن في قلب الحرم الإبراهيمي، بمجرد سؤالك أحد روّاده عن المكان الذي قَتل فيه المصلّين، سيؤشرّ لك نحوه،فتحيا تفاصيل المجزرة، و"يغصّ" حلقك قليلًا. حاليًا توجد ثلاثة حواجز بين الزائر و"الإبراهيمي"، اثنان منها بوجود عناصر من جيش الاحتلال، والثالث في المدخل مباشرة، على ما يبدو يتم فيه تفتيش الحقائب، حيث توجد ذات الآلة "الرنانة"، لكنه لم يكن مستخدمًا وقت دخولنا، إلا أن رؤيته فقط، تغذي حقدي تجاه الاحتلال. لا أعرف لمَ في هذه الجولة بالذات تمنيت رفقتك، وودتُ لو تشاهد البؤس الذي تحياه جدران المدينة الآيلة للسقوط على فراق ذويها. رغم أنني أعرف لمَ أتذكرُك، على سبيل المجاملة، كلمّا دخلتُ باحة المسجد الأقصى. ربما حينها، لو رافقتني، كنتَ ستستعيد أملَك بوجود نماذج للصمود، تندُر مقابلتها هذه الأيام. فمجموعة "تجوال سفر" التي نظمت مسيرنا في الخليل، عرّفتنا بإحدى المناضلات وتدعى جميلة الشلالدة (51 عامًا)، التي ظلت في بيتها مع أولادها وبناتها رغم تهجير معظم سكان حيّها، حتى زوجها ترك البيت، بسبب المضايقات المستمرة لقوات الاحتلال في الليل والنهار. الشلالدة، تحكي بفخر عن تجربتها، وتقول "قاومت واعتُقلت 25 مرة وضُربت وجربت كل أنواع الغاز وتعرّض بيتي للرصاص وتركني زوجي مع بناتي.. ولم أستسلم".وكأنها تزّف خبرًا حين تقول إن ابنها الآن في عامه الدراسيّ الرابع في الجامعة. أظنكَ لو رأيتها، كنت ستدوّن جميع ما قالت، أو تحفظه لتخبر به الجميع في اليوم التالي، ولن يكون المنشور في صفحة "الفيسبوك" خاصّتك، عن نماذج فلسطينية مجرد"Share" من صفحات الآخرين كالمعتاد، وسيكون للمرة الأولى من وحي تجربتك.