خاص - شبكة قُدس: لم يمثل اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية لحكومة الاحتلال سوى فاصلاً بين مرحلتين تنتقل فيهما، في العدوان، من المواجهة الواسعة والشاملة، إلى صياغة سلوك هجومي يومي يستبيح البلاد من شمالها إلى جنوبها، شرعنة لها اتفاق آخر مواز مع الإدارة الأمريكية، والخطة الشاملة على مستوى الإقليم للهجوم على المقاومة في كل المواقع، والضغط عليها لنزع سلاحها، وأدت الغارات العدوانية المستمرة على الأراضي اللبنانية، إلى استشهاد المئات بينهم نساء وأطفال ومدنيون لا علاقة لهم بالعمل التنظيمي والعسكري في حزب الله، وتصاعدت في الأيام الماضية هذه الغارات، وهو ما زاد من الأسئلة حول احتمالية تجدد الحرب بمعناها الواسع كما في السابق.
حرب لم تتوقف… تدمير حزب الله هدف مركزي
تتعامل حكومة الاحتلال وأجهزتها المختلفة بما فيها الجيش والاستخبارات مع المنطقة كاملة، من فلسطين إلى إيران، على أنها جبهة متعددة في حرب ذات هدف مركزي، وهو إخضاع الجميع لزمن جديد، تكون فيه الهيمنة "إسرائيلية"، لذلك فإن وقف إطلاق النار تراه بمثابة تبديل في المراحل حسب الخطط، التي قد لا تكون جاهزة على وجه تفصيلي، لكن الهدف العام واضح، لنتنياهو وأركان حكومته من اليمين والصهيونية الدينية، لذلك تصبح كل الوسائل مباحة، والاختيار بينها يعود وفقاً لترتيبات المرحلة، والتفاهمات مع الإدارة الأمريكية التي ظهرت بوضوح منذ عامين على أنها مدير الحرب والجبهات، والمقرر المركزي والرئيسي للسياسة العدوانية الإسرائيلية، وكيفية تصريفها لتحقيق "أفضل النتائج" لتمتين المشروع الأمريكي والإسرائيلي.
انطلاقاً من هذه القواعد فإن جبهة لبنان حتى وإن تحولت إلى "ثانوية"، في الاعتبارات العملانية لجيش الاحتلال، بسبب مركزية جبهة غزة، في المرحلة السابقة، إلا أن الهدف الرئيسي المتمثل بتدمير حزب الله لم ينزل عن الطاولة، وكالعادة تحضر عدة أدوات أولها العسكري الذي تتحمل مسؤوليته دولة الاحتلال، والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي تنفذه الإدارة الأمريكية وحلفائها.
يسعى الاحتلال من العدوان المتكرر إلى لبنان إلى حزمة من الأهداف الميدانية والتكتيكية في السياق الاستراتيجي الأعلى، وهو تدمير حزب الله، وهو الاستمرار في عملية استنزاف للحزب تعرقل مجهوداته لترميم قوته التنظيمية والعسكرية وعلاج الثغرات الأمنية والاستخباراتية والتكيَف مع واقع جديد طرأ عليه خلال الحرب، وضرب أية محاولات لإعادة التسليح أو ترميم المواقع العسكرية، وإبقاء لبنان في حالة بين الاستنفار النفسي والإنهاك للحاضنة الشعبية لحزب الله من خلال تعريضها الدائم للقصف والعدوان، مما يفتح المخيال النفسي على توقع احتمالات متعددة بينها التحسب لعودة الحرب على نطاق واسع، في ظل ما أحدثته من دمار واسع.
من وسائل الضغط على حزب الله ومجتمعه، كرر جيش الاحتلال منذ بداية اتفاق وقف إطلاق النار، قصف جرافات ومعدات وشركات تعمل في عمليات الإعمار، بهدف منع أي مشروع لإعادة تعمير القرى والمناطق اللبنانية التي دمرها العدوان الإسرائيلي، وكل هذا يندرج في سياق ضغط أكبر تشترك فيه حكومة الاحتلال مع الإدارة الأمريكية وأطراف إقليمية أخرى على الحكومة اللبنانية، لإجبارها على التحرك نحو تنفيذ قرار نزع سلاح حزب الله وقوى المقاومة، والتصريحات التي يطلقها المبعوث الأمريكي ومن معه من المسؤولين خلال زياراتهم للبنان، تشير إلى هذه العملية المتبادلة من الضغوط لتحقيق هدف تدمير المقاومة اللبنانية.
تستخدم الولايات المتحدة وسائل أخرى في الضغط على حزب الله والقاعدة الشعبية للمقاومة، بينها الحصار الاقتصادي، عبر السعي إلى إخراج مؤسسات القرض الحسن وغيرها من الهيئات التي تقدم خدمات اجتماعية ومعيشية للناس، عن "القانون اللبناني"، وإغلاق حسابات عديد من اللبنانيين، المحسوبين على حزب الله وحتى المقربين منه من خارج الأجهزة التنظيمية، رغم ما في هذه الضغوطات المستمرة من مخاطر انزلاق لبنان نحو صراع داخلي، يعلن مسؤولو الحزب أنهم "لا يسعون إليه"، إلا أن المحللين والمراقبين يقولون إن هذا الاحتمال حاضر وإن كان بعيداً في ظل مساعي كل الأطراف اللبنانية إلى إبقاء الحبال رخوة وإن جرى شدها في بعض المراحل، في إطار السياسة اللبنانية التي لا تنفجر حتى تعود إلى تكتيك تدوير الكرة بين الجميع وإرضاء كل الأطراف، إلا أن الضغوط الأمريكية الكبيرة ورضوخ بعض الأطراف لسياسة أطراف إقليمية عربية قد يأخذ البلاد إلى مسار تصارعي داخلي.
مثلت الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان مرحلة مفصلية في تاريخ حزب الله، الممتد منذ اجتياح البلاد في 1982، فقد فيها رمزه التاريخي الأمين العام حسن نصر الله ومعه قيادات تاريخية وبارزة وكوادر متقدمة في الأجهزة العسكرية والسياسية والأمنية والإعلامية، وخسائر كبيرة في مفاصل أخرى، إلا أنه نجح في ابتلاع الضربة في أيامها الأولى، والاستمرار في القتال على مستويات مختلفة، وصولاً إلى وقف إطلاق النار، الذي وضعه الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم، على أنه فرصة قدمتها المقاومة للبنان لالتقاط الأنفاس، في ظل أن "الجبهة والعمل العسكري عليها كانت مغلقة على احتمالات متكررة".
التكيَف… صراع حزب الله مع متغيرات الحرب
تموضع الحزب، في هذه المرحلة، في سياق استراتيجية بما فيها من تكتيكات وتفاصيل عملانية وتنظيمية، في عملية تأقلم فرضتها عليه الظروف المستجدة، بينها التطورات في سوريا، التي كانت الممر الرئيسي لسنوات لقوافل السلاح التي تصله من إيران، لذلك فإن التحدي الأساسي كان أمامه حتى خلال الحرب هو إغلاق دائرة الاختراق الأمني والاستخباراتي التي حققت للاحتلال فرصة النيل من قياداته وكوادره، وهو ما أكد عليه مسؤولون مختلفون فيه بينهم الأمين العام، الذي قال إن لجان التحقيق ما زالت تدرس وتبحث عن أسباب نجاح ضربات الاحتلال، هل هي عائدة لأسباب تقنية أم بشرية، وما هي التكتيكات الجديدة على مستوى التخفي والعمل والتنظيم التي يجب أن يتحول لها الحزب، في ظل التفوق التقني لدولة الاحتلال، خاصة على مستوى الاستفادة من تقنيات الذكاء الصناعي.
ولتحقيق أهداف صيانة وترميم أجسامه التنظيمية وسد الثغرات لمنع الاحتلال من تكرار الضربات التي حصلت خلال الحرب، فإن الحزب يبدو وكأنه اختار الصبر على انتهاكات الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار، وعدم الرد في هذه المرحلة، وتحميل الدولة اللبنانية مسؤولياتها في رد العدوان عبر الوسائل المختلفة، بينها الدبلوماسية والضغط على ضامني الاتفاق وغيرها من الطرق، خاصة أن الحزب قبل الانسحاب من جنوب نهر الليطاني، بهدف وضع الدولة أمام مسؤولياتها، كما يقول المسؤولون فيه، مع تأكيده على الرفض المطلق لأي محاولة لسحب سلاحه، ودعوته إلى حوار داخلي لبناني للاتفاق على استراتيجية للأمن الوطني والقومي، تواجه عدوانية الاحتلال ومخططاته للسيطرة الكاملة على المنطقة، خاصة في ظل التوحش الذي أظهرته الحرب، وكان للبنان نصيب واسع منها، والإعلان الصريح من أقطاب اليمين الصهيوني الديني الذين يسيطرون على قيادة دولة الاحتلال أن هدفهم الكبير هو السيطرة على بلاد العرب.
والتحدي الأساسي أمام الحزب هو التعلم أيضاً من الاغتيالات التي ينفذها جيش الاحتلال، في مرحلة ما بعد الحرب، وصيانة خطوطه القتالية والتنظيمية في ظل ظروف شديدة الحساسية، سببتها الاستباحة الإسرائيلية للبلاد، خاصة على مستوى عمليات التجسس والاستطلاع، وإغلاق جسمه التنظيمي أمام أية محاولات جديدة للتسلل إليه واستهداف قيادات من المستوى الأول والرفيع، لذلك فإن الخروقات الإسرائيلية بقدر ما تمثل تهديداً وانتهاكاً وعدواناً، إلا أن مراقبين يرونها فرصة أخرى لفحص مدى تغلغل استخبارات الاحتلال والمعلومات التي ما زالت تكونها عن حزب الله والمقاومة اللبنانية.
ويتبع حزب الله في هذه المرحلة سياسة أخرى مرتبطة بالإعلام والخطاب، هي محاولة الصمت شبه التام عن الحديث عن قدراته العسكرية وما يملك من عتاد، لتحقيق أهداف مختلفة بينها عدم إدخال جمهوره في حالة من تصور مبالغ فيه للقوة، والإبقاء على فكرة المقاومة حاضرة بعيداً عن حسابات القوة المادية، كما عبر عن هذه الفكرة الأمين العام نعيم قاسم، في اللقاء الأخير، ومحاولة "الإعماء" على استخبارات الاحتلال، والدخول في مرحلة سرية شبه كاملة، تعود به إلى مراحل ماضية خاصة مع البدايات التأسيسية له حين كانت التفاصيل والمعلومات خاصة عن جهازه العسكري شبه منعدمة، قبل أن تتوسع أجهزته ومؤسساته، ويدخل في علاقات إقليمية واسعة وما ترتب عليها من نتائج، خاصة في مرحلة الربيع العربي، والحرب السورية.
والتحدي الآخر أمامه هو منع تحول الخلافات في الداخل اللبناني إلى صراع على شكل "حرب أهلية"، لذلك يمزج بين رفضه مخططات سحب سلاحه، وإبقاء الأبواب مفتوحة للاتصالات مع أركان الدولة اللبنانية، في جهد مشترك مع رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، الذي يعتبر الشريك السياسي الأهم للحزب، وفي هذه المرحلة يسعى معه للتصدي لمحاولة الإدارة الأمريكية ودولة الاحتلال تفجير صراع داخلي في البلاد، بالشراكة مع أحزاب معادية للمقاومة، وفي الوقت نفسه يرسل الحزب رسائل خاصة لخصومه المتوثبين للانقضاض عليه وعلى البيئة الجماهيرية للمقاومة أن الحرب لم تضعه في موقف الضعيف الذي يسهل تدميره مع مؤسساته وكل ما يخصه، وهو ما طالبت به علناً شخصيات لبنانية معادية له.
احتمالات الأيام المقبلة
لذلك فإن في هذه الحرب الواحدة يقف كل طرف مقابل الآخر، مع أهداف مختلفة ومتنوعة، دولة الاحتلال والإدارة الأمريكية مع طموح تدمير حزب الله والمقاومة وإدخال لبنان في التطبيع وما تسمى "الاتفاقيات الإبراهيمية"، ومد الهيمنة الإسرائيلية أمراً واقعاً من فلسطين إلى لبنان وسوريا، وحزب الله وقوى المقاومة تحمل معها "الصبر الاستراتيجي" في هذه المرحلة على الأقل، والسعي للتكيَف مع الواقع السياسي والعسكري الذي أحدثته الحرب، وترميم قدراتها بما يتاح لها من إمكانيات والإبقاء على المقاومة فكرة وسلوكاً حاضرة رغم كل الظروف.
ويفتح التصعيد العدواني من جيش الاحتلال، في الأيام الماضية، التفكير على احتمالات عديدة، بينها إقدام حكومة الاحتلال على عدوان واسع يستمر لأيام، خاصة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تتلقى عادة معلوماتها من الاستخبارات والأمن الإسرائيلي، تروج لمزاعم حول ترميم حزب الله لقدراته بصورة كبيرة، وحصوله على صواريخ من إيران، في الأشهر الماضية، واستعداده لمهاجمة المواقع التي بناها جيش الاحتلال على الأراضي اللبنانية، وغيرها من الادعاءات، والاحتمال الآخر هو تصعيد في الاغتيالات، للضغط على الحزب وجمهوره والدولة اللبنانية لتحرك أكبر وأكثر شدة نحو تحقيق خطة نزع سلاح حزب الله، في سياق "حرب داخل الحرب" بمعنى تصعيد أوسع لتحقيق هدف عرقلة جهود حزب الله لترميم نفسه، وضرب بنك أهداف قد تكون استخبارات الاحتلال حصلت عليه في المرحلة الماضية، في إطار الحرب الواسعة التي لم تتوقف إصلاً، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتنوعت وتعددت أشكالها.



