بالرغم من أن التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل كان يشكل دائما أحد أعمدة نظام الحكم في الولايات المتحدة، فإن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات غير مسبوقة في المزاج العام تجاه هذا الالتزام الحديدي بمصلحة إسرائيل.
وفي الوقت الذي كان فيه هذا التغيير في المعسكر الديمقراطي مفهوما، باعتباره تيارا ليبراليا يركز على المصالح الاقتصادية والاجتماعية أكثر منه تيارا أيديولوجيا، إلا أن حدوث اختراق وتغيير في المزاج العام للحزب الجمهوري بأطيافه المحافظة المختلفة كان غير متوقع أبدا.
الحزب الديمقراطي وقاعدته أسرع تطورا، وأكثر قبولا في أوساط الأقليات الملونة في الولايات المتحدة، ولذلك برز من بينهم باراك أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة، وتمكنت إلهان عمر أول مسلمة محجبة من دخول الكونغرس الأميركي على قوائم الحزب الديمقراطي، كما كانت الديمقراطية رشيدة طليب أول فلسطينية تجاهر بدعم القضية الفلسطينية في الكونغرس.
ومن بين صفوفه يبرز الآن الشاب المسلم زهران ممداني المنتقد لإسرائيل بشدة، متصدرا المنافسة على مقعد عمدة نيويورك، كبرى المدن الأميركية ومركز المال والأعمال الأبرز فيها. وهذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن الولاء لإسرائيل لم يعد أمرا مجمعا عليه في قواعد الحزب الديمقراطي.
أما الحزب الجمهوري، الذي يعتبر حاضنة للاتجاه المحافظ الأميركي بما يحمله من التزامات أيديولوجية مبدئية، فقد كان أقل قدرة على تغيير وتبديل المواقف طوال العقود الماضية، ومن بينها التزامه الثابت تجاه إسرائيل بناء على أسس دينية ومصلحية.
لكن رياح التغيير التي حملها السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كما يبدو لم تكن مقصورة على المنطقة والإقليم، بل تجاوزتهما لتصل إلى النواة الصلبة للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، وهي النواة البيضاء المتشددة التي شكلت على الدوام أصل رؤية الحزب التي تجاهر باعتزازها بأميركا البيضاء صاحبة القيم الأوروبية المسيحية العريقة التي لا تقبل كثيرا من التطورات الليبرالية التي شهدها المجتمع الأميركي خصوصا، والمجتمعات الغربية عموما في العقدين الأخيرين، ولا سيما في مجال الهوية الجنسية، والحريات المطلقة، والإجهاض، وغيرها.
هذا التغيير بدا واضحا في تصريحات شخصيات تعد من الأصوات التي تمثل النواة البيضاء المحافظة الصلبة للحزب الجمهوري، من أمثال الإعلامي اليميني المعروف تاكر كارلسون، وعضوة الكونغرس مارجوري تايلور غرين، وحتى ستيف بانون كبير الإستراتيجيين السابق في البيت الأبيض، ومستشار الرئيس ترامب خلال فترة رئاسته الأولى.
يجمع بين هؤلاء التزامهم السابق القوي بدعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكونهم أبرز وجوه تيار "أميركا أولا" (ماغا)، وهم من الأصوات المسموعة لدى المجتمعات البيضاء المحافظة المعروفة بتأييدها الدائم للحزب الجمهوري.
وأهم من ذلك كله أنهم كانوا من أشد الأصوات دفاعا عن إسرائيل في السنوات التي سبقت طوفان الأقصى.
لكنّ شيئا ما تغير في هذا التيار كما يتبين من تغيير خطاب هذه الشخصيات وغيرها، فقد انقلب هؤلاء في خطابهم ضد إسرائيل وبدؤوا ينتقدون بصوت مرتفع نفوذها الكبير في السياسة الأميركية، ويكشفون مدى تغلغل اللوبي المؤيد لإسرائيل، الذي تمثله عدة مؤسسات، أهمها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، حيث تصل درجة التدخل في السياسة الداخلية الأميركية وتوجيهها حد تقديم المصالح الإسرائيلية على المصالح الأميركية.
وباتت هذه الشخصيات تنتقد هذا التغلغل بقوة وتفضح أسماء سياسيين أميركيين معروفين بدعمهم اللامحدود لإسرائيل، بل وتتهمهم بالخيانة لبلادهم وتقديم مصلحة بلد أجنبي على مصالح الولايات المتحدة.
تاكر كارلسون خرج في أكثر من لقاء عبر البودكاست الذي يديره ليهاجم عددا من السياسيين الجمهوريين مثل عضوي مجلس الشيوخ توم كروز وليندسي غراهام المعروفين بدفاعهما المستميت الدائم عن إسرائيل، بل إنه قال في حلقة بثت قبل أسبوعين تقريبا إن وقوف هذين الشخصين مع إسرائيل دون حدود وتقديم مصالحها على مصالح الولايات المتحدة، يرقى لمرتبة خيانة بلادهما.
أما عضوة مجلس النواب مارجوري تايلور غرين فلم تترك وسيلة إعلامية إلا خرجت عليها لتهاجم إسرائيل وتتهمها بالإبادة الجماعية في غزة، وترفض وقوف إدارة ترامب وراء نتنياهو في هذه الحرب، وهي تعبر عن مواقفها هذه في موقعها الرسمي على شبكة الإنترنت، الذي تعرف فيه عن نفسها بكونها مدافعة عن شعار (أميركا أولا)، وأنها ترفض تقديم مصالح الدول الأجنبية على الولايات المتحدة.
هذه عينات فقط من شخصيات مؤثرة ومعروفة في أقصى اليمين الجمهوري الأميركي غيرت مواقفها المعلنة من إسرائيل، وباتت تنتقد الإبادة الجارية في غزة، بل وفي بعض الأحيان تسميها باسمها؛ إبادة جماعية. بل إن بعض هذه الأصوات، ولا سيما كارلسون، باتت تلمح إلى تورط محتمل لإسرائيل في اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك، الذي تزعم صفحات جمهورية على وسائل التواصل الاجتماعي أنه اغتيل عندما بدأ يلمح لتغيير موقفه من إسرائيل وحربها على قطاع غزة.
وهذا الأمر سبب صدمة لدى الحكومة الإسرائيلية دفعت نتنياهو للخروج في فيديو ينفي فيه أي ضلوع في مقتل كيرك، ودفعه كذلك لتخصيص لقاءات مختلفة وميزانيات كبيرة لدعم حملات إعلامية سواء بنفسه، أو من خلال بعض مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي لمحاولة إقناع هذا التيار المتنامي في الحزب الجمهوري بأن إسرائيل لا ترتكب إبادة جماعية في غزة، ولا تتدخل في السياسة الداخلية الأميركية.
كما أن (أيباك) بثت قبل أيام إعلانا مدفوعا في عدة قنوات أميركية- سواء تلك المؤيدة للجمهوريين أو للديمقراطيين- تحاول تبرير عملها لصالح إسرائيل، وإقناع الرأي العام الأميركي بأن خدمة مصالح إسرائيل في أميركا تعتبر مفيدة للولايات المتحدة!
وللمفارقة، فإن الإعلان نفسه يقول إن (أيباك) تعمل بين السياسيين الأميركيين باعتبارها جماعة ضغط تضمن مصالح إسرائيل، وهو بالضبط ما تشكو منه تلك الأصوات الجمهورية التي باتت ترى في تقديم مصالح إسرائيل على مصالح بلادهم، خيانة مرفوضة.
لعل نقطة التحول الأبرز في مواقف كثير من قيادات هذا الحزب من إسرائيل كانت كما يبدو الهجوم الإسرائيلي على إيران، والانخراط الأميركي العلني فيه، وتلك العملية كانت بالطبع واحدة من مخرجات ما يجري في غزة.
حيث خرجت هذه الأصوات لترفض دخول الولايات المتحدة في حروب لصالح إسرائيل، وتتصاعد بعدها الانتقادات، لتفضح كافة أشكال التدخل الإسرائيلي في السياسة الداخلية الأميركية.
هذه النقطة المفصلية في الصراع كشفت أن حقيقة الصدع والخلاف تقوم على فكرة مدى تورط الولايات المتحدة في صراعات إسرائيل. وهنا ظهر الخلاف الحاد بين تيارين: قومي وديني، وهذا الأخير هو المسيطر حاليا على إدارة ترامب، وبالتالي على سياسة الحزب الجمهوري.
هذا التيار الإنجيلي الذي لا يزال على ولائه المطلق لإسرائيل تقوم رؤيته للصراع على مبدأ ديني في الحقيقة. وهو ما يبدو واضحا للعيان من خلال تصريحات أبرز أعضائه، مثل السيناتور ليندسي غراهام الذي لطالما قال في الإعلام إن الحرب في قطاع غزة في حقيقتها حرب دينية، ورئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون المهووس بفكرة البقرة الحمراء وإعادة بناء المعبد الثالث المزعوم مكان المسجد الأقصى، لدرجة استضافة الحاخام الإسرائيلي تساحي مامو المسؤول عن هذا الأمر في يوم الصلاة الوطني قرب الكونغرس الأميركي بواشنطن في يناير/كانون الثاني 2024، والسفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكابي الذي لا يمل من تكرار تصريحاته الدينية المتتالية حول المسيح وأرض الميعاد، بما يجعل المراقب يتساءل: ما إذا كان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل أم العكس؟
وكذلك وزير الخارجية ماركو روبيو الذي اشتهر بظهوره برسم صليب أسود بالرماد على جبهته الربيع الماضي، ولا ننسى بالطبع صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر الذي عاد كما يبدو لحلبة السياسة الأميركية مؤخرا من خلال ملف اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
هذه الشخصيات وتوجهاتها الدينية تبين أن الانقسام الحاصل في الحزب الجمهوري تجاه إسرائيل بات يأخذ اتجاها أيديولوجيا كذلك، وهذا طبيعي بالنظر إلى الطبيعة الأيديولوجية التي تطبع هذا الحزب مقارنة بالحزب الديمقراطي كما أسلفنا.
ولذلك، فإننا نشهد اليوم تعميقا لهذا الصدع في بنية الحزب الجمهوري بين ما هو ديني يقدم رؤيته للنصوص الدينية المقدسة، وما هو قومي وطني يقدم مصلحة العرق الأبيض الأميركي.
ويبدو أن الرئيس الأميركي ترامب يتردد بين الاتجاهين بالنظر إلى طبيعته المتقلبة. والواضح أن النقطة الفاصلة في انحسار أي من التوجهين في مواجهة الآخر مربوط أساسا بتوجهات القاعدة الشبابية المتنامية لهذا الحزب بين أبناء الجيل الحالي، والتي من الواضح أنها باتت تنحاز للتوجه القومي أكثر منها للديني، وباتت ترى في إسرائيل عبئا على الولايات المتحدة الأميركية، ولم تعد تخشى من اتهامات معاداة السامية في انتقادها العلني لإسرائيل، ويبدو أن هذا الأمر سيستمر بالتصاعد في الحزب الجمهوري، وإن بوتيرة أبطأ لدى أنصار الحزب الديمقراطي.
وأيا ما كانت النتائج، فإن حقيقة واحدة أصبحت واضحة ولا مفر من الاعتراف بها: وهي أن إسرائيل لم تعد محل إجماع أميركي سواء في الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري، والواجب استغلال هذه الحقيقة الجديدة والبناء عليها.



