ترجمات خاصة - قدس الإخبارية: في مقالة نشرتها القناة 12 العبرية، قدّم المحلل السياسي مناحيم هوربيتش قراءة نقدية حادّة للكيفية التي تخوض بها "إسرائيل" حروبها، مشيرًا إلى أنّ كل عملية عسكرية تبدأ بضجيج سياسي وإعلامي ضخم، وتنتهي بصمتٍ يعكس الفشل والإحباط. فمع كل مواجهة، تُطلق الحكومة وقيادة الجيش وعودًا كبرى: بيانات استثنائية، وأسماء رنّانة للعمليات، وتحليلات تتحدث عن «الانهيار» و«القضاء النهائي» و«التغيير التاريخي». لكن النهاية، كما يقول هوربيتش، تكون دائمًا أقل بطولية بكثير.
في لحظة نادرة من المفارقة، لم يكن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو هو من أعلن نهاية الحرب، بل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قال من داخل الكنيست: "الحرب انتهت". تلك الجملة – التي تهرّبت منها الحكومة الإسرائيلية – مثّلت، في رأي هوربيتش، إعلانًا غير رسمي عن نهاية الحرب المدمّرة على غزة وبداية مرحلة سياسية جديدة في "إسرائيل"، مرحلة يسودها الشعور بالفشل وتبدّد الأوهام التي رافقت الحرب منذ السابع من أكتوبر.
يرى هوربيتش أن مشهد الاحتفالات بعودة الأسرى الأحياء لم يُخفِ الإحساس العميق بخيبة الأمل من حربٍ لم تحقق أيًّا من أهدافها المعلنة: لا نزع سلاح غزة، ولا تفكيك حركة حماس، ولا فرض سيطرة "إسرائيلية" على القطاع، ولا حتى استعادة الردع المفقود. ويقارن هذا الإخفاق بعجز المؤسسة العسكرية "الإسرائيلية" عن نزع سلاح حزب الله أو القضاء على المقاومة في الضفة الغربية، رغم العمليات المتكررة والنجاحات التكتيكية المحدودة.
ويضيف أن الحديث عن "احتلال غزة" أو "تغيير نظام الحكم فيها" أو تحويلها إلى منطقة استيطان يهودي بات مجرد شعارات بلا مضمون، بعدما اصطدمت المؤسسة الأمنية والسياسية بجدار الواقع، وباتت تدرك أن لا حلول سهلة أو نصرًا مطلقًا في مواجهة فاعلين عقائديين يمتلكون بنية صلبة وقدرة على الصمود.
بحسب هوربيتش، فإن الموقف اليميني الذي رفض إنهاء الحرب ورفض صفقة الأسرى انهار فجأة تحت الضغط الأمريكي المباشر. فكل الخطابات التي ملأت جلسات الحكومة ووسائل الإعلام ومسيرات الحدود تحوّلت إلى كلمات جوفاء. الوعود بتحويل غزة إلى "هونغ كونغ إسرائيلية" أو إلى "جنة عقارية" كما قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أو إلى "حيٍّ للشرطة" كما أعلن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، تبخّرت كلها. ومعها تبخّرت الوعود بفرض السيادة على مستوطنات الضفة الغربية أو تحقيق "نصر استراتيجي" يغيّر وجه الشرق الأوسط.
ويعلّق هوربيتش ساخرًا بأن بإمكان الحكومة إلقاء اللوم على الجميع: على الرئيس بايدن الذي فرض إدخال المساعدات، أو على رؤساء الأركان "غير الهجوميين"، أو على نتنياهو ووزير الأمن اللذين "لم يذهبا حتى النهاية"، أو حتى على ترامب الذي يبحث عن "نوبل للسلام". لكن النتيجة، كما يقول، واحدة: لم يتحقق أي وعد من تلك التي أطلقتها الحكومة اليمينية.
يقول هوربيتش إن اليمين "الإسرائيلي" نسي جوهر السياسة الواقعية، وانشغل في بناء عالمٍ من الأوهام. وحتى في غياب انتخابات قريبة، عليه أن يراجع نفسه: أن يحدّد أهدافًا واقعية قابلة للتحقيق، مثل حماية المستوطنات في الضفة الغربية بوصفها "حزام الأمان الشرقي"، وتعزيز الاستيطان كأداة استراتيجية، وتبنّي سياسة أمنية صارمة، مع الحفاظ على "الهوية اليهودية للدولة" التي تشكّل الثابت الأيديولوجي الوحيد في خطابه.
ويضرب مثالًا على هذا الانفصال عن الواقع بتصريحات سموتريتش المتكررة: من قوله إن "لن تدخل حبة قمح واحدة من المساعدات إلى غزة"، إلى حديثه عن "بونانزا عقارية" في القطاع، مرورًا بتفاخره بأن حكومته "تتفاوض مع الأمريكيين على تقسيم الأراضي". ويخلص هوربيتش إلى أن الفجوة بين هذه الأقوال والواقع الميداني قد تقضي على مستقبل هذا التيار سياسيًا.
يرى هوربيتش أن صعود نفتالي بينيت مجددًا – رغم أنه كان يُعدّ سياسيًا منتهي الصلاحية – يعكس تحوّلًا في المزاج العام داخل معسكر اليمين. فالناخب "الإسرائيلي" بات يبحث عن الواقعية لا عن الشعارات. وكما فشل اليسار في حقبة أوسلو حين غرق في أوهام "الشرق الأوسط الجديد" بينما كانت التفجيرات تعصف بشوارع تل أبيب والقدس، فإن اليمين اليوم يسقط في الوهم ذاته، لكن من الجهة المقابلة: وهم القوة المطلقة والسيطرة الكاملة.
ويختتم هوربيتش مقاله بالتحذير من أن استمرار الخطاب الشعبوي في التعاطي مع ملفات الحرب والأمن سيقود اليمين إلى خسارة ثقة الجمهور، تمامًا كما فقد اليسار مصداقيته قبل عقدين. فبعد حربٍ كلّفت "إسرائيل" آلاف القتلى والجرحى ومليارات الدولارات من الخسائر، لم يعد الناخب "الإسرائيلي" مستعدًا لتصديق الأوهام القديمة. لقد انتهت الحرب، كما قال ترامب، لكن ما لم تنتهِ بعد هو معركة "إسرائيل" مع نفسها، بين واقعٍ يفرض التواضع وأحلامٍ تأبى الاعتراف بالهزيمة.



