يجب أخذ التصريحات الإسرائيلية عن إعادة ترتيب الشرق الأوسط من بوابة الحرب على لبنان بقدر من الجدّية. الخطط لذلك موضوعة على الطاولة، وما يجري الآن يُذكّر بمشروع المحافظين الجدد، فترة ولاية بوش الابن، باستكمال إعادة تشكيل الشرق الأوسط بمحاولة الغزو الإسرائيلي للبنان عام 2006، وهو المشروع الذي بدأ مع غزو العراق في العام 2003. لم يكن خافيا على أحد حينها؛ أنّ غزو العراق ومحاولة غزو لبنان عُقد أساسية في ذلك المشروع الأمريكي/ الإسرائيلي الطموح، وهو المشروع الذي ينبغي القول إنّه تعثر بسبب فشل جيش الاحتلال الإسرائيلي في مواجهته مع حزب الله.
الظرف اليوم بالنسبة للأمريكان يبدو مواتيا بنحو أحسن، صحيح أنّ الرعب قد لفّ المنطقة بعد ضربات 11 أيلول/ سبتمبر، وقد غزت الولايات المتحدة العراق خارج إطار الأمم المتحدة، وأظهرت غضبها الكاسح، وانعكس ذلك خوفا وهلعا، لتبدأ التحولات الأكثر عمقا وخطورة في النظام الإقليمي العربي، بالمزيد من التبعية المخزية للولايات المتحدة. في هذه الأجواء طرحت المبادرة العربية للتطبيع مع "إسرائيل"، وتُرِك ياسر عرفات ليموت بالسمّ والحصار في المقاطعة في رام الله، ولم يجد حزب الله من الرسميين العرب في مواجهته لآلة الحرب العدوانية الإسرائيلية سوى وصف مواجهته للاحتلال بالمغامرة غير المحسوبة، إلا أنّ ذلك كلّه كان البدايات.
تبدو هذه البدايات قد وصلت نهاياتها من قبل عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. فالعلاقة مع "إسرائيل" انتقلت من عرض مشروط للتطبيع بإنهاء الاحتلال في إطار امتصاص الغضب الأمريكي بعد أحداث أيلول/ سبتمبر، إلى تحالف تطبيعيّ معلن، وما ليس معلنا مندرج في إطار الخطة التصفوية للقضية الفلسطينية، التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتبنّاها بايدن وأعلن عن خطته لاستكمالها من خلال التطبيع السعودي/ الإسرائيلي ومدّ الخطّ التجاري من الهند مرورا بالإمارات والسعودية والأردن، وصولا لـ"إسرائيل" المحطة الأخيرة قبل الوصول إلى أوروبا. تأتي الخطّة الأمريكية مع بايدن، والحالة هذه، في سياق خطة كونية لإطباق الهيمنة على العالم، بمحاصرة المنافسين الكبار وعلى رأسهم الصين. لا تعود "إسرائيل" القضية الأساس الوحيدة، أي تغيير الشرق الأوسط لصالحها فحسب، ولكنّها باتت قضية أساس مندرجة في قضيّة أساس أكبر وهي إطباق الهيمنة الأمريكية على العالم، وضمان المستقبل لصالح هذه الهيمنة.
بخلاف ما توقّع كثيرون، تأتي هذه الحرب لتكون حربا أمريكية، ليس فقط لأنّ الخطط الأمريكية لهذه المنطقة قديمة ومعلنة وجرت محاولات دامية لإنفاذها، ولكن أيضا لأنّ موقع "إسرائيل" في المنطقة باتت أهميته تتجاوز كونها ذراعا للإمبراطورية الأمريكية في المنطقة، إذ إنّ تسوية أمور هذا الذراع باتت ضرورية لخدمة أهداف الهيمنة الأمريكية في العالم، سواء في المواجهة الدائرة في أوروبا الآن (الحروب الروسية الأوكرانية) أو محاولة تطويق الصعود الصيني. فالاعتقاد بأنّ الانشغال الأمريكي بالملفات الأخرى سيجعلها غير معنية بحرب في الشرق الأوسط هو اعتقاد خاطئ، وما يقال عن كون نتنياهو لا ينصاع للولايات المتحدة، غير صحيح، فخلافات نتنياهو مع إدارة بايدن تبقى في الإطار العام المحتمل، وفي ضوء السياسات العريضة المتفق عليها، وما سوى ذلك يمكن تسويته كأيّ خلاف على طاولة شركاء متحدين! الدور الأمريكي على هذه الطاولة الآن هو الترشيد وإنضاج الظروف وتحسين الشروط لصالح الإسرائيلي.
يعني ذلك أنّ هذه الحرب هي حرب المؤسسة الأمريكية، أي حرب ما يسمّيه البعض بالدولة العميقة، وهذه الإدارة -إدارة بايدن- الوجه المثالي لهذه المؤسّسة، ومن جهة "إسرائيل" فالأمر ليس مجرد محاولة لتطبيق خطط موضوعة، وإنّما محاولة في خطوط متوازية لتحقيق إنجاز ما.
ثمّة خطّ لتعويض العمق الاستراتيجي الضيق لـ"إسرائيل" باحتلال مساحات داخل لبنان. إنّ مفهوم "العمق الاستراتيجي" من أهمّ المفاهيم المتحكمة بالنظريات الأمنية الإسرائيلية، وكانت الحلول الإسرائيلية تتراوح بين احتلال أراض في بلاد عربية أخرى، ويبقى لبنان في طليعة هذا الهدف، أو تغيير النظام في تلك البلاد. والمقصود بتغيير النظام، تغيير الموقف السياسي للنخبة الحاكمة، وقد يكون احتلال الأراضي مدخلا لتغيير موقف النخبة الحاكمة، أو في أقل الأحوال النصر الحاسم مدخلا لتغيير موقف النخبة الحاكمة. (احتلال سيناء فكامب ديفيد فتحويل سيناء إلى عمق للاحتلال بالسلام مثالا).
بالتأكيد للحرب الإسرائيلية أهداف دنيا معروفة، كفرض الاستسلام على حزب الله بدفعه لفكّ جبهته عن قطاع غزّة، أو إعادة مستوطني الشمال، أو شرط وقف إطلاق النار على لبنان بأن يضغط الحزب على حماس للقبول بصفقة تبادل أسرى بالشروط الإسرائيلية. هذه الأهداف الدنيا معلومة ومعروفة ويجري تداولها إسرائيليّا، ولكنها تبقى أهدافا دنيا، وليست مطروحة للأفق القريب، ولا أدلّ على ذلك من اغتيال "إسرائيل" للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بعد موافقته على وقف مؤقت لإطلاق النار مدة 21 يوما لا يبدو أنّه في حدوده المؤقتة يشمل قطاع غزّة، ولم تمنع هذه الموافقة من اغتيال الأمين العام للحزب، إذ لم يكن لـ"إسرائيل" المغرمة بالاستعراض أن تفوّت هذه الفرصة، إلا أنّ الهدف يتجاوز الاستعراض، وهو العمل على تحييد التحدّي الاستراتيجي الذي يمثّله الحزب، لتأتي عملية الاغتيال في سلسلة الضربات المكثفة التي أرادت شلّ الحزب وإفقاده توازنه.
وبما أنّ الحرب ما تزال محتملة من "إسرائيل"، فهي حرب تدور على الأطراف، والخسائر يمكن احتواؤها، والولايات المتحدة جاهزة للتعويض، والنظام الإقليمي العربي قد وصل النهايات المطلوبة التي بدأت مع احتلال العراق عام 2003، بما في ذلك سوريا، التي تبدو وكأنّها خارج الزمن تماما الآن.. فلماذا لا يستمرّ فيها الإسرائيلي وصولا لتغيير النظام، أي تغيير الوضع السياسي في لبنان بما يخرج الحزب من المعادلة ويخرج لبنان نفسه من الصراع تماما، ويعوض بذلك الإسرائيلي جانبا من مشكلة ضيق العمق الاستراتيجي بنظام سياسي موال له في لبنان، وينطلق من ذلك إلى جانب الولايات المتحدة، والنظام العربي المندرج في الخطة، لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وصولا إلى إيران؟!
هنا تأتي أهمّية الداخل اللبناني، والتعويل على خلخلة الحالة اللبنانية لصالح الخطّة الإسرائيلية، وحصار الحزب بين فكّي كمّاشة، واحدة إسرائيلية وأخرى لبنانية داخلية مع ضمور التأثير السوري كما هو واضح. ولا ينبغي الغفلة عن كون الاجتياحات الإسرائيلية للبنان، في الأعوام 1978، و1982، كانت مع وجود الحرب الأهلية اللبنانية ووجود قوى مستعدّة بالكامل للتعاون مع "إسرائيل"، وهو ما حاولت "إسرائيل" استثماره في اتفاق 17 أيار/ مايو 1983 الذي أبرمته مع الحكومة اللبنانية في حينه؛ والذي ينصّ على السلام بين لبنان و"إسرائيل" بما يضمن أمن هذه الأخيرة. إنّ هذا يدعو للكثير من الاهتمام بالخطابات والفعاليات السياسية الجارية، وكذلك لبعض أشكال العدوان الإسرائيلي على لبنان، كالمجزرة التي اقترفها الإسرائيلي في بلدة أيطو قضاء زغرتا أخيرا.
هنا علينا أن نستدرك بنقطتين، الأولى: أن الطموحات الإسرائيلية ليست حتمية النفاذ، والثانية: أنّ الخطط الإسرائيلية تدور في رحم التكتيك، وهذا جوهر معنى الخطوط المتوازية، فما يجري حتّى الآن عمليات تجريب وجسّ نبض وبحث عن الفرصة الممكنة للانطلاق منها، فالأمر دون أن تكون تلك الرؤى والخطط والطموحات نظرية استراتيجية تمثّل أساسا صلبا لكلّ ما يجري.