زمن تملؤه شاشات التلفاز الملونة، والهواتف النقالة، وفي زمن مواقع التواصل الاجتماعي، وتبادل الصور ومقاطع الفيديو، يصعب دائمًا إخفاء الحقيقة عن الجماهير، رغم أن بعض الجماهير قد مورس عليها أساليب كثيرة في سياق معركة كي الوعي، كتلك المعارك التي حدثنا عنها الكاتب البريطاني "جورج أورويل" في روايته "1984" على سبيل المثال لا الحصر، وعبر قفزة سريعة إلى الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال منذ أكثر 75 عامًا، يكون إخفاء الحقيقة عنهُ، هو بمثابة تطبيق للمثل الفلسطيني القائل: "أبُو فَروَة بِيتلَبّد لابُو جَاعِد"، إذ لا يُمكن لك كمثقف، أو كمحلل سياسي بارعًا في المهارات السياسية، أو قائدًا سياسيًا، أو عسكريًا، أو حتى كاتبًا أن تنجح دومًا في تبرير الواقع لهذا الشعب، فالشعب الفلسطيني يحتاج إلى التغيير لا التبرير، وخصوصاً أمام مشهد الحرب.
ماذا نقصد في كلماتنا السابقة؟، في سياق الحرب، والمعاناة، والألم، والقهر، والظلم، والتهجير، والموت...، تُصبح الجماهير أكثر وعيًا، وهذا ما ينطبق على الشعب الفلسطيني، إذ أن الشعب الفلسطيني رغم كل المحاولات التي مورست عليه في سياق معركة كي الوعي، من جهات مختلفة وفي مستويات مختلفة، استطاع ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أن يكشف الخديعة أمام أول قنبلة سقطت على غزة، وأدرك هذا الشعب أن الخطابات، أو الشعارات، وغيرها في هذا السياق، كانت بمثابة حبة جوز كبيرة ولكنها فارغة، وأن جزء كبير من هذه المحاولات التي كانت تُبث عبر وسائل الاعلام، هي بمثابة سموم، أو حتى بالونات مليئة بالهواء، لا علاقة لها بالواقع، وأكثر كشفت الحرب للجماهير الفلسطينية، وفضحت حالة الخداع، والزيف التي مارسها العالم بحق هذا الشعب مظلوم.
الحقيقة؛ ما بعد الحرب ليس كما قبل، فالشعب الفلسطيني ينطبق عليه اليوم ما قاله "جورج أورويل"، إذ يقول جورج: "كلما ازداد ابتعاد المجتمع عن الحقيقة، كلما زادت كراهيته لمن يتحدثون بالحقيقة"، وبالفعل الشعب الفلسطيني أصبح كارهًا للحقيقة ولمن يقولها، وتحديدًا أمام مشهد الجرائم في غزة، ولذلك لا يُمكن لوم الجماهير الفلسطينية لأنها غضبت، وسخطت من الحقيقة، وقررت صلبها على خشبة التاريخ، وهذا الغضب ليس على الحقيقة، بقدر ما يصب هذا الكره على الدهاء في إخفاء الحقيقة، ومن يقوم بممارسته، ولذلك كل الذين كانوا يطالبون، وأكثر يقولون الحقيقة هم على صواب بطبيعة الحال، خصوصًا من قال الحقيقة ما قبل الحرب، لأن ما جرى في غزة كان للبعض من الجماهير الفلسطينية هو بمثابة اكتشاف، وإزالة القناع عن وهم شعار الحقيقة، وكان من أوائل الذين يطالبون بقول الحقيقة للجماهير هو الأديب والشهيد غسان كنفاني.
رفع غسان كنفاني شعار "الحقيقة كل الحقيقة للجماهير"، إذ كان يعتبر كنفاني الجماهير بمثابة مدرسة ثورية يومية، وفي هذا السياق يقول كنفاني: "إننا نتعلم من الجماهير ونعلمها، ومع ذلك فإنه يبدو لي يقينًا أننا لم نتخرج بعد من مدارس الجماهير، المعلم الحقيقي الدائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءًا لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب"، ومن صلب كلمات كنفاني، على أقلامنا اليوم ألا تخرج عن مدارس الجماهير، وألا تتلوث تلك الأقلام كما يفعل البعض، وأكثر ألا يسقط التحليل لمجريات الواقع في مربع التجارة والكسب من الحرب، كما يحدث عبر شاشات الإعلام من قبل بعض المحللين، فالحقيقة تقود إلى النصر، والنصر يقود إلى الحقيقة، والأهم مهما كان الواقع قاسٍ، وعابسا، على الأقلام أن تكون صريحة، لا أن تُجامل، فالجماهير تُحب من يقول الحقيقة حتى لو كانت قاسية.
إن حالة الاغتراب عن الحقيقة لدى الجماهير الفلسطينية، أصبحت حالة مُدركه أمام مشهد الجوع، والتشريد، والنوم في العراء، فالحقيقة الآن لا يُمكن لها أن تقوم بتوفر رغيف خبز لطفل جائع في غزة، هكذا هو المشهد كحقيقة، فالجماهير الفلسطينية كانت تستحق الحقيقة قبل الحرب كما قلنا سابقاً، والأهم أن اليوم يتم إخفاء رغيف الخُبز، حتى تتنازل هذه الجماهير عن حقها بالحقيقة، وهنا تحديدًا ينطبق على الجماهير الفلسطينية صدق ما قاله الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه"، إذ يقول نيتشه: "الشيء الوحيد الذي تم تحريمه حتى اليوم بشكل منهجي هو الحقيقة"، وبالفعل مارس العالم أسلوبًا منهجيًا ضد الجماهير الفلسطينية في إخفاء الحقيقة، وذلك عبر أكذوبة التعايش السلمي، والطراز الأوروبي لدولة "إسرائيل"، واتفاقيات التطبيع، وخطة الإغراق الاقتصادي...، وفجأة أصبح هناك وجه آخر، وهو وجه الحرب، والقتل، والدمار، والأشلاء، والوحشية، والإرهاب، وأكذوبة القانون الدولي، والعدالة، والإنسانية...، وهذه الخطة الممنهجة والبنيوية جعلت الجماهير الفلسطينية تؤمن بأن لا حقيقة في العالم، إذا لم يبدأ تطبيقها في فلسطين أولا، وأبدًا.
في ذات المنوال، والمضمار، والسياق، يمكن القول إن الصراخ المنبعث من أفواه الجماهير الفلسطينية في غزة، تلك الأفواه التي تعيش الحرب، هي وحدها من تقول الحقيقة في القرن الواحد والعشرين، حيث هذه الأفواه هي التي تواجه ماكينة الحرب، وهي الأكثر قدرة على غربلة الكذب من الحقيقة أمام مشهد الموت، وهي التي كشفت كيف تم العمل على إقناعها أن الاحتلال هو "الجار البار"، وأن البرج العسكري لم يعد موجودًا، وبل كشفت كيف قالت القيادة السياسية لهذا الاحتلال "صدر البيت إلك والعتبة إلنا"، ونحتم في سؤال ضمن سياق القيادة السياسية، إذ يقول السؤال: "هل قرأت القيادة السياسية نقاط الاهتمام الثمانية "لماوتسي تونغ" فيما يخص التعامل مع الجماهير، أو قواعد السلوك "لهوشي منه"؟، وهل تعلم القيادة السياسية أن هناك فصلًا كاملًا في الأدبيات والمسلكيات الثورية في كيفية التعامل مع الجماهير، يدعوا هذا الفصل إلى احترام الجماهير، والاعتماد عليها، وتعبئة الجماهير، والثقة بها، والتعلم من الجماهير وتعليمها، والالتحام بالجماهير، والحفاظ على وحدة الجماهير؟، أم أنها تعلم، ولكنها تقوم بتغطية عيناها بالغربال الأمريكي تحديدًا؟