تختبئ الكلمات تحت القبعة، ويختفي فجأة من صاغها، إذ بعض الكلمات ليس من الصواب دومًا نشرها على صفحات القارئ، لأن المعنى ليس الكلمة هنا، بل الكتابة ذاتها، فهي محاولة لمخاطبة الوداع، ولربما محاورة سفسطائية مع الشهادة، ليس هذا من دواعي الجنون، حيثُ كثيرًا ما يكون الرحيل موجعًا حد الفكاهة، ولربما البعض يضحك حد تساقط الدموع من العيون عند الفقدان المعقد والدائم، وهذا ما يدعونا للقول أن فعل الشهادة ذاته هو الصواب، وذو معنى للباحثين في أزقة الحياة عن البقاء، وأكثر فعل الشهادة هو الأصوب، أو يمكن هنا من باب التوضيح الانخراط حد العظمة مع كلمات الشهيد باسل الأعرج، إذ يقول باسل: " وَهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟".
من سؤال باسل نُمسك طرف الخيط محاولين ترميم الحكاية، فالشهيد الذي يقود النص إلى حتفه كان بارعًا في إلقاء تفاصيل الحكاية على رمال غزة، إذ هناك تراكمت الأسئلة في ذاته، هي الحرب، هكذا كان يُفكر أدهم أبو شرخ*، تلك الحرب التي حررته من الأوهام كما يقول عالم النفس فرويد، وعندما قام بإمساك طرف الخيط عند التحرر، ركض كما الريح يُسابق الموت، ولكن كيف استطاع التحرر من الحب؟، فالحب هو شريك الموت، ومرة أخرى وبصيغة مختلفة كيف استطاع التحرر من هذا الثنائي المتلاصق حد الجنون؟، ألم يكن يعلم ما قاله يومًا عالم الاجتماع ""زيجمونت باومان" في كتابة "الحب السائل" حول هذا السؤال: " فالحب و الموت لهما أوان، ولا يدري المرء متى يأتيان، ومتى حانت ساعتهما فإنهما يأتيان بغتة، يُبعثان من العدم ليقتحما مشاغلنا اليومية".
ما بين الحب والموت، هي حكايتنا، تتراكم فيها الأسئلة التي تُطرح، ولكن لا إجابة!، بل يفتح السؤال عشرات الأسئلة، وتبقى هذه الأسئلة معلقة على أبواب البيوت المهدمة، وعلى ركام روضة الأطفال التي قصفها الاحتلال، وعلى دموع الأمهات، وصراخ الأطفال، وأجساد الشهداء، وقطع اللحم في الطرقات، وقنابل الفسفور الأبيض، والحصار، والتشريد، وخيام النازحين، والأهم أنها تبقى معلقة على جبين العالم الذي يسحق العدل بحقارة كل يوم كما قال الشهيد والأديب غسان كنفاني في يومًا ما.
في الحرب، نقاوم من نكره، ونتحمل من نُحب، تلك هي حقيقة أدهم أبو شرخ، هذا الشهيد الذي كان أفلاطوني المشاعر، ماذا نقصد؟، وفي خضمّ الإجابة يقول أفلاطون: " الحب؟ لا أدري. ربما كان رهافة كلما حاولنا القبض عليها تفتت كالفراشة المحروقة"، والأهم أن الحب في رأي أفلاطون، طريق يصعد بنا بواسطة الانجذاب درجة بعد درجة نحو ينبوع كل ما هو موجود بعيدًا عن الأجسام والمادة، حيثُ يتدرج الحب لدى أفلاطون إلى: حب الجمال في شكل واحد معين، ومن ثم حب الجمال في كل الأشكال الجميلة، ويليه حب الجمال الروحاني، وختاما بحب الجمال المطلق.
من جديد ما بين الحب والموت، تتقاطع الحكاية، وتتشابك خيوطها في طرقات غزة، إذ أدهم أبو شرخ يرسم حكايته الخاصة بتفاصيل لم يجترئ الشيطان على العيش في داخلها، حيثُ عاش أدهم صراعًا مع الذات وهو مُلقى على رمال غزة، وحاور أكثر البحر، هذا البحر الهادئ من الخارج، ولكن بداخله تعج الصراعات، كما هي ذات أدهم، تلك الذات الباحثة عن الحياة في أزقة الحصار، والقصف، تلك الذات الباحثة عن تحقيق حلم الزواج، وإنجاب الأطفال، ولكن الرصاص كان أسرع من الحلم، لربما هنا كان أدهم يُدرك أن الاحتلال عدو الأحلام، وأن الحرب عدوة الحب، ولذلك قام بتعديل جلسته، وبدأ يقول ما قاله يومًا الشاعر "محمود درويش" في قصيدته "هذا البحر لي"، إذ يقول "درويش": " هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي، واسمي، وإن أخطأت لفظ أسمي على التابوت لي، أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الغياب فلستُ لي، أنا لستُ لي، أنا لستُ لي".
في المراوغة مع الحكاية، لم يكن أدهم أبو شرخ محبًا للوصايا، ولكنه كما كل الشهداء كان يرفض أن يكون رقمًا، ذلك هو سبب إشعال النص، إذ أدهم كان مؤمنًا بالموت، كما كان مخلصًا في الحب، ولذلك لم يكن يُريد الرحيل رقمًا، بل حكاية، وقصة، ورواية، والأهم يرحل شهيدًا، واسمًا، ولربما لم يكن يود الرحيل جماعيًا، ولم يكن محبًا لذلك، لأنه كان يؤمن أن الحرب عدالة، ولذلك تمسك حتى العظمة في وصية صديقة الشهيد عبد طناني، إذ يقول عبد: " إذا متنا ظلكم تذكرونا، لا تخلونا أرقام".
مرة أخرى، ومن جديد، ما بين الحب والموت، لربما كان يُدرك أدهم الكلمات التي تقول:" إذا لم تكن بارعًا في الحب، هذا ليس بالضرورة أنك لن تكون بارعًا في الحرب"، وعليه تحرر أدهم من الحب، ومن الأحلام، والجلوس على شاطئ بحر غزة، ومن اللقاء، والخصام، والمصالحة، والمستقبل، وامتشق السلاح ليتحرر من الموت، حيثُ أدهم كان مؤمنًا بالمقاومة، أكثر من الحب، لربما!، ولكنه قرر أن يكون الطريق إلى الحب هو الموت، وهو بذلك يؤسس إلى أن الحب لا يكون صادقًا دون التضحيات، ولذلك قام بإنارة الطريق لكل الباحثين عن الحقيقة في صراع الحب والموت.
متى يتوقف النص عن النزيف، ويُقتل القلم؟، إذ الحكاية هي جرحًا في الذاكرة، وأكثر هي هزة أصابت جدران القلب، وهل يعقل هنا أن أدهم كان يبحث عن دق تلك الجدران كما كان يدعوا الشهيد والأديب غسان كنفاني في روايته رجال في الشمس؟، ليبقى هذا السؤال معلقًا، إذ أدهم كان بارعًا في الأسئلة، وأكثر في البحث عن خلوده الشخصي، وبل وبارعًا في الحصول على الأجوبة، وإلى هنا يقف النص وهو يدعونا إلى البحث عن أجوبتنا نحنُ أيضًا، وبل يقف النص وهو يقول لأدهم ما قاله يومًا الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" في نهاية قصيدته "مديح الظل العالي"، إذ يقول "درويش": " ماذا تُريد وأنت سيد روحنا، يا سيد الكينونة المتحولة؟، يا سيد الجمرة، يا سيد الشعلة، ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة، ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة !".
_____
*أدهم أبو شرخ: شهيد فلسطيني من قطاع غزة، استشهد بتاريخ 12 أيار/مايو 2024 خلال معركة طوفان الأقصى، يبلغ من العمر 22 عاماً.