استقال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، أهارون هاليفا، متحمّلا مسؤولية شعبته عن فشلها في التنبّؤ بعملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وقد جاءت الاستقالة سريعة بعد الضربة الإيرانية لـ"إسرائيل" في 14 نيسان/ إبريل 2024 ردّا على قصف هذه الأخيرة للقنصلية الإيرانية في دمشق في الأوّل من نيسان/ إبريل 2024، والتي أسفرت عن مقتل 16 شخصا، من بينهم محمد رضا زاهدي، القائد الكبير في "فيلق القدس"، وعدد آخر من الضباط الإيرانيين.
بعد الضربة الإيرانية، استُدعي الفشل الاستخباراتي العسكري في السابع من أكتوبر مجدّدا، وجرى الحديث تحديدا عن شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، والوحدة 8200، وهي الوحدة الأكبر في "أمان" والمسؤولة عن جمع المعلومات وتحليلها.
تكشف الاستقالة عن عجز المؤسسة الإسرائيلية عن إرجاء انقساماتها إزاء الواقع الاستراتيجي الجديد الذي أوجدته حماس بعمليتها "طوفان الأقصى" إلى ما بعد انتهاء الحرب، إلا أنّ أهمّ ما تدلّ عليه الاستقالة حالة "الانكشاف الاستراتيجي" الذي وضعت فيه عملية حماس "إسرائيل" وبنحو غير مسبوق طوال تاريخها.
لقد اعتادت "إسرائيل" على تحويل الفشل إلى فرصة، لكنّها هذه المرّة والحرب في يومها 200، لم تتمكن بعد من الخروج من المعضلة الاستراتيجية التي وجدت نفسها فيها. حتى التدمير الكامل والممنهج لقطاع غزّة، وهو ما يمكن أنّ تُرى فيه فرصة لـ"إسرائيل"، ينطوي في عمقه على نقيض كلّ المكاسب التي حققتها "إسرائيل" منذ توقيع اتفاقية أوسلو وإلى اليوم، فإمّا أن تنهي الحرب وتنسحب "إسرائيل" من القطاع بما يعني من جهة ما هزيمة واضحة، أو الاستمرار غرقا في حقائق القضية الفلسطينية المتجددة بعدما سعت في طمسها طوال العقود الماضية مستثمرة في مشروع التسوية.
يمكن الحديث في اليوم 200 من الحرب العدوانية الإسرائيلية على غرة، عن ثلاث قضايا أساسية تعانيها "إسرائيل" وبنحو غير مسبوق، وبما جعلها غير قادرة على إرجاء التلاوم وتدفيع الأثمان وتصفية الحسابات.
القضية الأولى.. هي الفشل المركب، ابتداء من الفشل بقراءة نوايا حماس، ثمّ الفشل في تحقيق سريع لأهداف الحرب، ففي اليوم 200 من الحرب الأطول في تاريخ "إسرائيل" لم تتمكن من تفكيك حماس أو القضاء عليها، ولا من استرجاع الأسرى الإسرائيليين لدى الحركة أحياء، والمعركة تدور أساسا في جغرافيا بالغة الصغر، ضدّ تنظيم صغير ومحاصر يقاتل بأسلحة خفيفة مصنعة محليّا، يفترض أن الاحتلال خطط وتدرب طويلا للقتال معه.
القضية الثانية.. أنّ هذا الفشل المركب عمّق من الانكشاف الاستراتيجي للاحتلال، فجذر هذا الانكشاف بما أظهرته عملية حماس من ضعف ذاتي إسرائيلي، ومن إمكانية الانتصار على "إسرائيل" في حال توفرت الإرادة وحسن التخطيط، وفي هذا الإطار. ينضمّ الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الذاتي إلى الاجتراء الفلسطيني عليها، ثمّ تأتي بعد ذلك الضربة الإيرانية، التي ترى فيها بعض القراءات الإسرائيلية، أنّها ما كانت لتأتي لولا عملية "طوفان الأقصى". أمّا الفشل المركب، من طول الحرب في مواجهة تنظيم صغير وبما لا يقبل المقارنة أصلا، فهو من العناصر الإضافية للانكشاف الاستراتيجي، وبما يعمّق من المعضلة الاستراتيجية.
القضية الثالثة.. هي المعضلة الاستراتيجية، فالخيارات الإسرائيلية بالقراءة السياسية المجردة صعبة. فالانسحاب والانكفاء عن الحرب يمكن تصويره بالهزيمة الواضحة، والاستمرار فيها يعني الانتقاص من المكاسب التي حققتها "إسرائيل" طوال العقود الماضية في سبيل طمس القضية الفلسطينية وتجاوزها إلى الأبد، وتكريس نفسها قائدة لتحالف يضعها على رأس عدد من الدول العربية.
لا يمكن فصل هذه القضايا الثلاث عن الظرف الإسرائيلي الذاتي، فتحميل المسؤولية للمستويات العسكرية والاستخباراتية يتجاوز عن كون متخذ القرار النهائي، سواء بكيفيات التعامل مع الواقع في غزة، بما في ذلك حركة حماس أو في ضرب القنصلية الإيرانية، هو المستوى السياسي، فالعامل الفني هو عنصر واحد فقط في هذه الحالة التي هي سياسية بامتياز.
لا شكّ أنّ "إسرائيل" أمام تحدّ كبير، فهي ليست في مسار واحد، أي مسار التراجع والتفكك، فثمّة مسار آخر تسابق ليكون هو المسار الغالب، أي مسار مراجعة أسباب الفشل ومحاولة تجاوزه وتحويله إلى فرصة، وهي بوصفها دولة قوية معززة بالإرادة الغربية وتملك حتى اليوم مجتمعا فيه مظاهر مبادرة واضحة وقدرا من الحيوية اللافتة، تستطيع أن تدخل في سباق ذاتيّ مع النفس.
يبقى في عناصر ضعف العامل الذاتي، أنّ غلبة الانتهازية السياسية ما تزال قائمة ممثلة في الفساد السياسي الذي يجسده نتنياهو، عقدة "إسرائيل" المستعصية منذ عقدين، ثم يبقى العقل الخلاصي الذي تمثله قوى الصهينوية الدينية التي لا تقيم وزنا للحسابات الاستراتيجية والسياسية، مما قد يجعل المراجعات الإسرائيلية قاصرة عن التكيف الصحيح مع الوقائع الجديدة، والعودة بالمراجعة فقط إلى العوامل الفنية والتقنية.
أمّا موضوعيّا.. فلا يمكن الاستثمار في الفشل الإسرائيلي دون وجود طرف آخر يملك الإرادة والمبادرة. فعملية "طوفان الأقصى" لم تكشف عن فشل "إسرائيلي" فحسب، بل وعن موات عربيّ عميق باعث على اليأس. وأمّا "محور المقاومة" وبالرغم من إسهامه في التأكيد على الانكشاف الإسرائيلي وإسناد غزّة، فإنّه من جهة لم يكن مؤثّرا بالقدر الكافي على مجريات الحرب في غزة وكبح عملية الإبادة الجماعية فيها، ومن جهة ثانية تبدو إرادته غارقة في الحسابات السياسية الثقيلة مما قد يفوّت هذه الفرصة التاريخية التي يُسابق فيها مجتمع الاحتلال وداعموه لتحويل الفشل إلى فرصة من جديد.