ليس الأمر المهم والحاسم تشكيل حكومة جديدة بدلًا من الحكومة الحالية، بل هل ستكون الحكومة الجديدة قادرة على إنجاز ما لم تستطع إنجازه الحكومات السابقة، وهذا يتطلب أن تكون جزءًا من رؤية وسياسة جديدة قادرة على القيام بأداء جديد يساعد الشعب الفلسطيني على التقدم على تحقيق أهدافه وحقوقه، وعلى الحياة بصورة أفضل، أو على الأقل بصورة أقل سوءًا، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، الحكومة الفلسطينية لا تعمل في وضع طبيعي، ففلسطين كلها تحت الاحتلال، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاوزت الالتزامات الإسرائيلية في اتفاق أوسلو، في حين استمرت السلطة بالوفاء بالالتزامات الفلسطينية السياسية والاقتصادية والأمنية من جانب واحد، حتى في ظل حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال ضد شعبنا بصورة عامة، وفي قطاع غزة بصورة خاصة، إضافة إلى أن النظام السياسي الفلسطيني الذي جسدته السلطة عند قيامها كان نظامًا رئاسيًا في معظم عهد الزعيم الراحل ياسر عرفات، وأصبح في أواخر عهده نظامًا مختلطًا رئاسيًا برلمانيًا، وعُدِّل القانون الأساسي على هذا الأساس، ومنحت فيه الحكومة ورئيسها صلاحيات واسعة فرضت بضغوط خارجية، ثم عاد النظام رئاسيًا في عهد الرئيس محمود عباس من دون تغيير القانون الأساسي؛ أي لم يتم الالتزام بما طالب به حينما كان رئيسًا للحكومة؛ حيث باتت جميع السلطات التنفيذية التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الرئيس.
يضاف إلى ما سبق، وقوع الانقسام/ الانقلاب ونشوء سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال، وقيام الاحتلال بعد السابع من أكتوبر بإعادة احتلال معظم قطاع غزة، مع إعلان نيته باستكمال احتلاله وفرض السيطرة الإسرائيلية عليه لفترة غير محددة، مع الاعتماد على أفراد وجهات محلية؛ ما يعني تشكيل إدارة مدنية في أيدي الاحتلال.
في ظل هذا الواقع المعقد والمحاط بالمخاطر والتعقيدات من كل نوع، لا يمكن أن يكون الحل فقط بتشكيل حكومة، سواء كانت حكومة وحدة وطنية أو حكومة كفاءات وطنية متوافقًا عليها وطنيًا أو حكومة تكنوقراط يشكلها الرئيس وفق القانون الأساسي المعدل، من دون مراعاة الشروط والخصائص المذكورة أعلاه.
مثلما يقال عن حق، التشخيص السليم للمرض أو المأزق الوطني أو الشخصي يشكل نصف العلاج، وإذا كان التشخيص كما ذكر، فالفلسطينيون بحاجة إلى مراجعة عميقة وجريئة للماضي وللتجارب التي خاضوها واستخلاص الدروس والعبر منها لتأسيس أو لوضع الأساس لتجربة أو تجارب جديدة قادرة على تجاوز المأزق.
هناك وجهة نظر تقدم حلًا لا أقرها، ولكنها رائجة، وتدور حول أن الوضع أو المأزق المعقد حتى يجد حلًا بحاجة إلى تفكيك وحل تدريجي لكل قضية على حدة، من خلال البدء بالقضية أو القضايا الأسهل، وبعد ذلك التوجه نحو القضايا الأصعب، وهذا النهج اتبع في جولات الحوار الوطني في مختلف المراحل؛ حيث تم التركيز على القضايا الشكلية والإجرائية، مثل الحكومة والمعابر ورواتب الموظفين والانتخابات، وتأجيل القضايا الجوهرية، مثل المشروع الوطني والبرنامج السياسي ومنظمة التحرير والقواعد التي تحكم العلاقات الداخلية. وكما أرى أن هذه المقاربة بالحل كانت من الأسباب الرئيسية لفشل الحوار، أو لعدم تطبيق ما يتم الاتفاق عليه.
هناك مقاربة أخرى تحاكي أن المرض العضال بحاجة إلى عمل جراحي، ولا يمكن أن يعالج بحبة أسبرين، والمأزق الفلسطيني بحاجة إلى عملية جراحية، وأسميناها في مركز مسارات الذي أتشرف بإدارته حل الرزمة الشاملة، التي تتناول القضايا المحورية على أن تطبق بالتوازي والتزامن؛ حيث يسير تشكيل الحكومة بشكل متزامن مع البحث في إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، مع الحوار للاتفاق على البرنامج السياسي الذي يفضل أن يسبق الخطوات الأخرى بخطوة؛ "لأن الاتفاق عليه يشكل المفتاح لفتح مختلف الأقفال المغلقة.
مقاربتان مطروحتان للحل
المقاربة الأولى: ترى أن يتم البدء بتشكيل حكومة تكنوقراط مهنية وغير سياسية، تتمتع بالصلاحيات المنصوص عليها في القانون الأساسي، على أن يتبع ذلك البحث في المواضيع الأخرى، مثل البرنامج السياسي والانتخابات والمنظمة وأسس الشراكة الوطنية، وأن الرئيس بحكم الصلاحيات الممنوحة له يقبل استقالة الحكومة الحالية ويكلفها بتسيير الأعمال، ويكلف شخصًا آخر بتشكيل الحكومة الجديدة ويعرضها على الرئيس الذي يقبلها أو يرفضها، ويكون هو المرجعية لها، وذلك يقفز عن كل الخصائص التي نعيشها، وأهمها الانقسام، وأن الرئيس منتخب منذ 19 سنة؛ أي إن ولايته انتهت منذ سنوات طويلة.
المقاربة الثانية: ترى أن الحكومة مهما كان شكلها وحكومة التكنوقراط بشكل خاص لا تستطيع العمل في ظل استمرار حرب الإبادة والعدوان واحتلال معظم قطاع غزة والتهديد باحتلال ما تبقى منه، في ظل بقاء السيطرة الإسرائيلية إلى فترة غير محددة، وفي ظل استمرار الاقتحامات والاغتيالات والاعتقالات، وتقسيم الضفة إلى معازل وتكثيف الاستيطان والتهويد وتسليح المستوطنين، وإطلاق يدهم ضد الفلسطينيين والقرصنة المالية الإسرائيلية للأموال الفلسطينية، وعدم وجود أي أفق سياسي، بل هناك سياسة إسرائيلية تفرض أن يكون البعد الأمني والاقتصادي هو السقف الذي يحكم العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، وهذا يجعل الحكومة الفلسطينية حتى لو اعترف بها ليست أكثر من إدارة مدنية تحت الاحتلال.
ما المطلوب؟
أولًا: بلورة رؤية شاملة لمواجهة التحديات والمخاطر، التي أهمها الآن وقف حرب الإبادة والتهجير والضم وتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، وإعادة إعمار ما تهدم جزئيًا، وبناء ما تهدم كليًا، وتقديم كل أشكال الإغاثة لشعبنا في قطاع غزة.
ثانيًا: بلورة إستراتيجيات متعددة سياسية وقانونية وجماهيرية وإعلامية وكفاحية، وعلى مختلف المستويات المحلية والإقليمية والدولية، قادرة على توحيد الفلسطينيين في مواجهة هذه المخاطر، وتوظيف الفرصة التاريخية التي توفرت بسبب الصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة وشلال الدم الذي لم يتوقف حتى الآن، وأدى إلى تعاطف العالم كله تقريبًا، ليس فقط لأسباب إنسانية، بل لأسباب سياسية؛ حيث يرى العالم الآن أكثر من أي وقت مضى ضرورة إحقاق الحقوق الفلسطينية، وأهمهما حق تقرير المصير الذي يشمل استقلال دولة فلسطين.
ثالثًا: تشكيل قيادة موحدة مفوضة من مؤسسات منظمة التحرير بقيادة المرحلة الراهنة لحين تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخابات حيثما أمكن والتعيين وفق معايير موضوعية متوافق عليها.
رابعًا: إعادة النظر في شكل السلطة وطبيعتها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها؛ لتكون سلطة خدمية إدارية تنقل مهماتها السياسية إلى منظمة التحرير الموحدة، وتكون أداة في خدمة البرنامج الوطني الذي يجسد القواسم المشتركة.
وهذا قد يقتضي إيجاد نوع من الفصل ما بين مهمات المنظمة والسلطة مع مرجعية المنظمة، وكذلك تغيير طبيعة النظام السياسي للسلطة؛ حيث لا حاجة لمنصب رئيس السلطة تطبيقًا لما جاء في وثيقة الاستقلال التي تضمنت قيام نظام برلماني، والسلطة فيه تكون بيد الحكومة ورئيسها، ومرجعيتها - أي السلطة - تكون وطنية ممثلة بالقيادة الموحدة لمنظمة التحرير إلى حين إجراء انتخابات المجلسين التشريعي والوطني.
لا يخفى على أحد أن تشكيل حكومة تكنوقراط يأتي استجابة لمطلب أميركي دولي إقليمي هدفه الأساسي رسم مستقبل لقطاع غزة بعيدًا عن حكم حركة حماس، وإلا سيتم منع تمويل البناء وإعادة الإعمار؛ لأن معظم الممولين يشترطون إبعاد "حماس" عن الحكم.
وعلى الرغم من ذلك، فإذا قامت حكومة تكنوقراط مرجعيتها الرئيس فقط ومن دون برنامج متكامل متفق عليه ستكون ضعيفة، وستتعرض لعراقيل لا نهاية لها تضعها الفصائل التي لن تكون راضية عن حكومة لا تشارك فيها وبلا مرجعية ويتحكم فيها الرئيس وحده، كما ستكون ضعيفة أمام شعبها والاحتلال الذي لا يريد حكومة قوية واحدة للضفة والقطاع تبقي الباب مفتوحًا للوحدة ولتجسيد استقلال دولة فلسطين.
وستبدأ مرحلة ثانية بعد تشكيل الحكومة يكون مطلوبًا فيها من الاحتلال ومعظم حلفائه نزع السلاح من المقاومة في قطاع غزة، واجتثاث جذور "العنف والتطرف"، كما جاء في خطة نتنياهو لليوم التالي، وهذه وصفة مؤكدة لجعل الحكومة في خدمة الاحتلال وللحرب الأهلية، لذلك فإن حكومة التكنوقراط بحاجة إلى مرجعية وطنية توافقية تمثلها قيادة وطنية موحدة لمنظمة التحرير، وبعد تشكيلها تحتكم إلى القانون الأساسي المعدل الذي يقيد صلاحيات الرئيس إلى حين اتخاذ القرارات والقوانين التي تتيح إلغاء منصب رئيس السلطة.
وهناك أمر في منتهى الأهمية، وهو ضرورة أن تكون كل هذه العملية جزءًا من أفق سياسي متفق عليه سلفًا يبدأ بالاعتراف الأميركي والأوروبي والدولي عبر مجلس الأمن بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس؛ حيث يكون التفاوض بعدها في إطار دولي ولتطبيق القانون الدولي والقرارات الدولية، وليس التفاوض حولها.
كل ما سبق يجعل تشكيل حكومة تكنوقراط من دون الأخذ بما سبق قفزة في المجهول، إن لم يكن إلى جهنم.
وأخيرًا، نأمل ألا يكلف الرئيس أحدًا بتشكيل الحكومة قبل اجتماع موسكو، بل أن تكون الحكومة بالمتطلبات الضرورية أحد مخرجات الاجتماع؛ لأن الذي رأى جدول أعمال اجتماع موسكو لا يرى أن هناك إمكانية للاتفاق، بل يخشى إذا لم يسحب من التداول أن يفتح أسرع طريق لاستمرار الانقسام وتعميقه وتعميمه.