شبكة قدس الإخبارية

خمس كاميرات مكسورة: فيلم في فخ العدو (2)

محمد خيري

صورة التطبيع والشهيد القتيل

وتستمر رسالة الفيلم الموجهة إلى الخارج، بإظهار الفلسطيني بمظهر المطبع مع الاحتلال الإسرائيلي وفق رؤية برناط نفسه، ولا مكان هنا للعفوية، وان كان، فهي عفوية قاتلة، فالمخرج من خلال اللقطات المتكررة لا يجد حرجًا من إظهار ابنه جبريل الذي تدور قصة الفلم من خلال توثيق مراحل نموه، يتناول المسليات الإسرائيلية، تمامًا كما يظهر من يسمى بالفيل -وهو الذي يحبه الأطفال للطفه وتربطهم فيه مشاعر وأحاسيس مختلفة الألوان والمضامين- في اللقطات الأولى للفيلم مرتديًا لباسًا يحمل صورة العلم الفلسطيني والإسرائيلي معًا في دائرة واحدة، في صورة لا ترمز إلا لحالة من السلام الواقع والتطبيع المستمر، وكذلك الأمر في ظهور أخيه رياض الذي يقتاده الجند إلى السجن وهو يرتدي ملابسًا حملت شعارًا كتب باللغة العبرية لمؤسسة " التوراة والعلوم" وهي بالمناسبة مؤسسة تقع في مستوطنة "عيمق حيفر" أفاد البحث عنها بان هدفها الرئيس هو تربية الجيل الإسرائيلي على الثقافة التوراتية والصهيونية.

قد أتفهم الأمر الواقع قليلًا، فالمنتجات الإسرائيلية وكذلك ملابس العمّال تغزو المجتمع الفلسطيني نتيجة لحالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والقدرة على الانفصال عن المحتل سياسيًا وجغرافيًا، ولكنني احمل هنا على المخرج عدم إقصائه لتلك المشاهد التي من شأنها أن تعكس صورة سلبية للمشاهد الأجنبي.

لقد وقع المخرج الفلسطيني إذن بالفخ، مما يستدعي القول إن في تجاهله للمصطلحات وآلية استخدامها على وجه يخدم القضية الأساس، وكذلك تجاهل اللقطات التي تحمل صور التطبيع مع الاحتلال من خلال الملابس والمشروب وأصناف الطعام، ناهيك عن الاجتماعات المتكررة مع الإسرائيليين، من شأنه أن يشكك في رسالة الفيلم الأساسية، فللصورة قوة وتأثير لا يدركه المخرج الفلسطيني الذي نقل إلى العالم صورة الفلسطيني المطبع مع احتلاله بشكل علني، المتساوي مع المستوطنين بالحقوق، دونما إدراك منه، وان كان هذا لا يبرر له ما وقع فيه ولا ذنب للمجتمع الفلسطيني الذي صار مقدرا عليه أن يحمل كل تلك الأعباء وان يشرع بحملة لـ " تبييض وجهه" أمام العالم من جديد، فما هدف المظاهرات والاحتجاجات المستفزة للجندي القاتل منذ الأساس ما دامت هناك محاكم إسرائيلية عادلة يمكن المثول أمامها وانتزاع الحق والشرعية من براثن قضاتها؟

 الإسرائيلي .. ظهور الإنسان اللطيف

ظهر الإسرائيلي في الفيلم أخيرًا لأول مرة بشكل صريح، فهو الصديق المخرج " إسرائيلي" اللطيف الذي يهدي برناط كاميرا جديدة – بصرف النظر عن السبب- بعد أن تحطم رصاصة " أم 16" كاميرته، ويظهر مرة أخرى بمظهر المحامي الذكي البارع الذي ينتزع للسكان قرارا ما المحكمة بتنحية الجدار قليلا عن أرضهم، ثم ها هو يظهر تارة أخرى بمظهر البريء الذي يعود المريض ويزور السجين، فيزور عدد من الإسرائيليين برناط في معزله الفردي بعيدا عن القرية ويؤنسون وحدته، وهم أنفسهم من يظهرون عبر اللقطات المختلفة خلال الاجتماعات المتكررة مع أهالي القرية في قلب قريتهم يناقشون وإياهم قضية الجدار والاستيطان، وأخيرا يظهر احدهم بمظهر ناشط السلام الذي يصاب بالغاز المدمع أثناء إحدى المظاهرات، ليصرخ احد الفلسطينيين على الجنود " لقد أصبتم إسرائيليا أيها الحمقى"، في مشهد لا يمكن تأويله بوجه واحد، وهو ظهور الجندي بشكل مختلف عن الإسرائيلي، فالإسرائيلي هو ناشط سلام فحسب، يسعى لحرية أهالي المدينة، بينما الجندي شيء مختلف تمامًا، هو إنسان من كوكب آخر، عنيف وقاتل ومجرم لا يأبه بالإنسان بغض النظر عن عرقه وقوميته وجنسيته.

و"إسرائيل" تمامًا كغيرها، لا تخلو من اليساريين والمعارضين، وكذلك حال مخرج الفيلم الإسرائيلي " غاي دافيدي"، ولكنه يسار مختلف تمامًا لا طائل من تجميله ولا مصلحة وطنية في ذلك، فإذا ما ناقشنا الأمر من خلال الفيلم المطروح، نجد اليسار يحيد المؤسسة الرسمية ويحمل الأثقال للمستوطنين والمؤسسة العسكرية فحسب، فاليسار الإسرائيلي يبقى إسرائيليا يعمل على الأرض من منطلق الفكر الإسرائيلي الصهيوني، وليس في معظمه سوى أداة لتجميل صورة المؤسسة الإسرائيلية والقيادات السياسية أمام العالم، مشاركًا عبر ذلك في إدارة الأزمة لا حلها، ولعب الدور الأساسي في كل دولة، وهو دور المعارضة الذي يجب أن لا تخلو منه إسرائيل كدولة تدعي الديمقراطية والحداثة.

ولعل اشد المشاهد وانكاها وأكثرها تأثيرًا هي تلك المشاهد التي تظهر الفلسطيني وهو يصرخ بوجه الجنود دون إبداء أي مقاومة من قبلهم، ثم يصرخ بوجوههم "هل انتم حمقى، نحن أبناء عمومة، نحن أبناء هذه القرية الصغيرة نريد السلام، والإسرائيليين أبناء عمنا يريدون السلام أيضا، فلا تطلقوا الغاز علينا".

خلال متابعة مثل هذه اللقطات لا بد وان تدور في ذهن المشاهد تساؤلات كثيرة وآراء مسبقة وصورة يأخذها حول الجندي نفسه، فهذا الجندي العنيد الغاضب يطلق الغاز والمطاط باتجاه الفلسطينيين، بينما الإسرائيلي نفسه يريد السلام والعيش بكرامة جنبا إلى جنب معهم، فمن هو الإسرائيلي الذي يريد السلام وبماذا يختلف عن هذا الجندي، وفي ذلك تضليل كثير، فالإسرائيلي الذي يريد السلام هو نفسه هذا الجندي الغاضب القاتل الذي قتل من يلقب بـ " الفيل" على الرغم من ارتدائه لملابس تدعو للسلام، والإسرائيلي هو نفسه من يحشد على الحدود ويبني الجدار وينهش الأراضي الفلسطيني، وهو نفسه بلا شك من يبني المستوطنات ويشرعن وجودها عبر قنواته القانونية المختلف ومفاوضاته المستمرة لنيل الأكثر مع القيادات الفلسطينية، وهو نفسه من شرد أبناء هذا الشعب وقتل شيبهم وشبانهم وأطفالهم في غزة والضفة ولبنان.

 دراما ومشاعر غيّبها الإطار

 يحاول الفيلم تلخيص المقاومة بالمسيرات والمظاهرات السلمية، وتعريض الرموز الفلسطينية التي بلا شك نختلف معها وفي طريقتها للنقد والسلبية، وكأنها محاولة لحصر أشكال المقاومة وحتى حراك السلام بنموذج بلعين ونعلين، هذا النموذج الذي يظهر من خلال بعض الكلمات التي يسوقها برناط – بعفويته – خلال مشهد هادئ يظهر فيه "الفيل" المناضل مستمتعًا بمظهر الطيور الزاهية التي تسجع فوق شجرة التين ليلا نهارا وصيفا شتاءً، وهو يقول " ليس من السهل أن تحول كل الغضب الذي في داخلك إلى شيء ايجابي"!، كيف تظهر الايجابية؟، وهل تتمثل بتحويل مشاعر الغضب إلى مجرد متعة واستمتاع وسهر؟ هذا ما يجيب عليه المخرج تماما من خلال الاستمرار بتكرار كلمة الغضب مرفقة بمشاهد السلام والسلمية والاستمرار بالتطبيل والتزمير بالقرب من الجدار لاستفزاز الجنود حتى عند مقتل "الفيل".

 وفي مقتل الفيل حكاية أخرى نقف عندها، فهذا الفيل هو الصديق الحميم للمخرج " عماد برناط" الذي يحاول ترجمة الغضب بصور لم يسبق أن ترجمت إليه، يقتل "الفيل" في احد المشاهد برصاص الجيش المدافع عن الجدار، ليخلو المشهد من أي مؤثرات درامية أو خلفية موسيقية ملائمة من شانها أن تزيد المشهد حرارة، ثم تأتي المفاجئة غير المتوقعة، عندما يهرق دم الصديق ولا يتحرك صديقه لإنقاذه أو يرتجف له جفن أو يهتز له قلب، يقف برناط بعيدا في الزاوية يلتقط صورًا لصديقه " القتيل" كما يصفه، مشهد لا يمكن وصفه إلا بالقسوة والخلو من المشاعر، والاستهتار بقوة المشهد وتأثيره ورسالته التي كان من شان المخرج استغلالها لإظهار قبح الاحتلال وفضح جرائمه عبر العالم، لتعود وتختفي خلال دقائق عبر مشاهد الفيلم الذي سرعان ما يعود إلى سياقه.

 الكاميرا الخامسة والبحر الكبير

 على كل حال، الدخول في خلجات هذا الفيلم بغية تقييمه وتقديم النقد المناسب وكشف ملابسات كثيرة تقف من خلفه، بعيدًا عن اتهام مخرجه بالتعمد في نقل هذه الصور، ذلك نتيجة الافتقار للأدلة الكافية ولعدم الكشف عما يختلج النفوس، بحاجة إلى المزيد من الجهد، ذلك لكثرة الجهات التي تقف من خلفه واختلاف أفكارها ورؤاها ومعتقداتها ومقاصدها، ولكن الفيلم ومع اقترابه من النهاية يبرز تناقضًا من شأنه أن يقلل من أهمية رسالته الجوهرية، فلا معنى للاحتجاجات السلمية كما نرى، ذلك أن " الاحتلال مستمر بالزحف الاستيطاني دون أن توقفه الاحتجاجات، بينما على الجهة المقابلة يزحف نموذج بلعين لتنضوي قرى أخرى تحت لوائه، المزيد من القرى تقلد نموذج بلعين الذي لم ينجح بإيقاف الاستيطان"، هذا ما تثبته اللقطات الأخيرة من الفيلم في أذهاننا كمشاهدين.

 يمضي الفيلم يسرد حكاية جبريل، والكاميرات المكسورة، مفتقدًا لحلقة هي غاية في الأهمية، فقد عرف المشاهد مصدر الكاميرا الثانية وهي التي أهاده إياها صديقه الإسرائيلي نتيجة لفقره وعدم استطاعته اقتناء كاميرا جديدة، ولكن المشاهد حتمًا لم يعرف مصدر الكاميرات الثلاث المتبقية، فهل اقتناها برناط بنفسه أم كانت هدايا إضافية قدمها له " الأصدقاء" ؟ .

 وفي الختام تُشرع الأبواب أمام برناط لزيارة إلى "تل أبيب" عاصمة الاحتلال لاستكمال العلاج في المستشفى الإسرائيلي بعد تعرضه لحادث سير ارتطم من خلاله بالجدار ليسعفه الجنود بعد ذلك، ثم يزور بحر يافا المسلوب برفقة جبريل الذي بلغ الخامسة من عمره مسطرا خمسة سنوات من عمر النضال الشعبي، يقف هناك بعد تجواله بشوارع تل أبيب- بسيارته التي تحمل على مدار الفيلم دلالات كثيرة أهمها نمرتها الصفراء الإسرائيلية- لينقل لنا مشهد الأمواج الخالية من أي تعقيب أو تعمق في صلب القضية والتعريف بمأساة الشواطئ التي يتوق كل فلسطيني لزيارتها، فكما يبدو عجز المخرج عن اختتام فيلمه بالقول " هذا البحر الكبير، مش إلنا".!!

 وإن نقد الفيلم وان كان شديد الوطأة صريح المضمون، فهو لا يفقد المقاومة السلمية في نعلين وبلعين وغيرها من القرى الفلسطينية التي ضربت مثالا يحتذى به في الصمود من جوهرها، ولا يفقد المخرج من فلسطينيته ووطنيته التي لا يتجرأ عليها كاتب ولا ينتقص منها ناقد، إنما هو نقد بنّاء نسعى من خلاله إلى تقويم ما نرى انه الخطأ والانحراف وتثقيفه، والعمل على إدراك المسيرة السينمائية والإعلامية والتسجيلية الفلسطينية والخروج بمادة من شأنها أن تنقل صورة الوضع القائم وتنقل معاناة هذا الشعب الذي وقع ضحية الصهيونية والمؤسسة الإسرائيلية الإجرامية التي ما زالت تنتهك حقه بالحرية والحياة والعيش على أرضه، ممثلة بكل أذرعتها من عسكر ومستوطنين وقادة سياسيين.