فرضت ما بعد انتفاضة الأقصى ثم انتخابات 2006 معادلة حصرت المـ.ـومـ.ـة المسلحة في غزة، وفُرض عليها حصار صهيوني وعربي خانق، ومحاولة لنزع المشروعية عنها لعِبت سلطة رام الله الدور المركزي فيها، واستفاد المحتل من كل ذلك بفرض قواعد اشتباكٍ على المقاومـة تتعلق بغزة: بوقف قتل مدنييها وإدخال الوقود والكهرباء والغذاء والدواء وفتح مساحات الصيد، باختصار نجح في حشر المقاومــة مؤقتاً في زاوية كونها شأناً غزاوياً، وهو بخلاف هدف المقاومـة وعقيدتها.
وأعادت القدس انخراطها في جبهة الفعل المقاوم في رمضان من عام 2014 في هبة أبو خضير، التي تلت إحراق الفتى الشـ.ـهـ.ـيد محمد أبو خضير حياً على يد مستوطنين متطرفين التقطت غزة فوراً تلك المبادرة وبادرت إلى الدخول على خط الهبة حينها لعلها تعيد توسيع جبهتها وارتباطها بهدفها المركزي، لكن المحتل رأى في ذلك التصعيد فرصةً للذهاب في حرب شاملة تقتل الحراك الشعبي في القدس وتجبي ثمناً غالياً من غزة وتعيد حشرها في أولويات اشتباكها الخاصة، وهكذا كانت حرب 2014 على غزة.
منذ ذلك التاريخ جرت أربع تغييرات كبرى: أولاً شهدت القدس أربع هبات شعبية بعد هبة أبو خضير، فبات للقدس فعل شعبي في خط مستمر على جولات ولا يخشى عليه من الذوبان إذا ما دخلت غزة للاشتباك، وثانياً تمكنت غزة عبر مسيرات العودة من الخروج إلى قواعد اشتباك جديدة عبر جولات تصعيد تحافظ على سخونة الجبهة دون الذهاب لحرب شاملة وراكمت مقداراً كبيراً من القوة والتقدم النوعي، وثالثاً دخل المحتل في أزمة سياسية تكاد تصل به إلى انتخابات خامسة في سنتين ونصف، ورابعاً الانقلاب الكبير في السياسات الأمريكية بين عهدي ترامب وبايدن ولنا أن نتصور محصلة حركة سفينة نقل كبيرة تبحر باتجاه الشرق لأيام ثم تعود لتبحر باتجاه الغرب لأيام؛ لنقدّر أثر ذلك التأرجح على النفوذ الأمريكي العالمي.
تعود المقاومـة في غزة اليوم لتجدد محاولتها لتحقيق هدفين: أن تستعيد جبهة عريضة للمواجهة تشكل غزة رافعة لها بدل أن تكون مصدرها الوحيد، وتستعيد المقاومــة المسلحة في غزة اتصالها ببوصلتها الأساس التي كانت سبب انطلاقها ونشأتها: تحرير الأقصى والقدس وكل شبرٍ من فلسطين، وإذا ما تمكنت من تحقيق تقدم على هذه الخطوط المركزية فإن كل ما تبقى يصبح تفاصيل، لأن الجدوى تقاس بما يُحرز من تقدم نحو التحرر، ولا يقاس بمقدار الخسائر بحال من الأحوال.
بالمقابل يسعى الاحتلال إلى تهويل الثمن على غزة وتغريرها بأنه مستعد للذهاب إلى أبعد حد، لعله يوهمها بأن لا حل لها إلا العودة إلى قواعد اشتباكها المحلية، لكنها إن أصرت بالمقابل وردت بما يكرس موازين القوى الفعلية –كما يحصل الآن- فليس له إلا التراجع، وحتى إذا ذهب إلى تصعيد أكبر فهذا يصب في مصلحتنا، لأنه كلما عاند وأطال المواجهة أكثر كلما عظّم خسائره وازدادت مكاسبنا.
البداية من الأقصى كانت العامل المركزي في دخول فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 على الخط، وما شهدوه مع المقدسيين من تراجعات صهيونية ملموسة باليد بات يعني لهم التوثب لتغيير ما يعيشون تحته من قمع وقهر، وهذا أوصلنا في الليلتين الماضيتين في المحصلة من هبة في القدس إلى هبة شاملة في القدس وغزة والداخل والشتات.
تبقى الضفة الغربية الأسد المقيد بالتنسيق الأمني والسلام الاقتصادي، لكنها إذا ما انطلقت إلى الفعل ولو بشكله الشعبي فإنها وحدها من تستطيع تحويل هذه الهبة إلى انتفاضة مستدامة، لتفتح بذلك باب التحرير الحتمي لأجزاء من فلسطين دون قيدٍ أو شرط خلال شهورٍ من الزمن... ربما كان ذلك بعيداً عن التصور حين كان يقال قبل سنوات، لكنه اليوم لم يعد كذلك.