الزمان: 15/9/ 1968
المكان: قرية الخضر، غرب مدينة بيت لحم.
تتجول سيارة عسكريّة، وقد تم هزيمة البقعة الجغرافية التي سميت "الضفة الغربية"، يُصادف الجنود شاباً يمشي وحده، فيسألونه عن بطاقة الهوية. يجيب: لم أقطع بطاقة هويّة، أنا لا أعترف بالاحتلال الإسرائيلي ولن أحمل بطاقة هويّة منه.
يقتاده الجنود إلى سجن الرملة، وعبثاً هناك يحاولون إقناعه باستصدار بطاقة هويّة، يكرر لهم دون ملل : "أنا لا اعترف بوجودكم".
يبلغونه أنه رهن الاعتقال، ويطلبون منه أن يخلع ملابسه، لكنّه يرفض، من رفض البطاقة إحساسا بالكرامة، لايمكنه أن يخلع ملابسه بشكل مهين.
ينهال عليه الجنود بالهراوات، فتكسر يده، ويلقى في الزنزانة ليخوض إضراباً عن الطعام لمدة 150 يوماً. كان اسمه عوني الشيخ، ولا بطاقة تثبت ذلك، غير حبه للمكان بطاقة هويته الوحيدة التي لا تقول رقمه بل حكايته.
ولد عوني الشيخ في قرية الولجة، قضاء مدينة بيت لحم عام 1938، وعمل مدرساً لمدارس الوكالة في الأردن، عاد قبل النكسة بأسبوع واحد لزيارة أهله، ليكون شاهداً على احتلال ما تبقى من أراضي فلسطين. رفض إثر ذلك العودة إلى الأردن، معلناً موقفه بكل وضوح أنه لن يغادر "أرض الرباط"، ومعلناً انضمامه لإضراب المعلمين الحكوميين رغم أنه لم يكن معلما حكومياً، إلا أنه اعتبر الإضراب وسيلة من وسائل المقاومة، واعلاناً لموقف صارم تجاه تدخلات الاحتلال في التعليم والمناهج الدراسية بحسب قوله. وخلال ذلك بدأ بتعليم اخوته الصغار داخل المنزل، رافضاً ذهابهم للمدرسة في ظل هيمنة الاحتلال على التعليم.
أرسلت إدارة وكالة غوث للاجئين تطلب منه العودة وإلا سيتم فصله، لكنه رفض معلناً ثباته على موقفه مهما كلفه الأمر، فتم فصله. مرت سنوات ليطلبوا منه عام 1974 أن يعاود التقدم لوظيفة معلم فهم بحاجة له، إلا أن رده كان بأنه لم يستقل حتى يتقدم للوظيفة. وأنه مازال موظفاً لكنه مضرب عن العمل. ويكمل الشيخ: "لقد مرّت 46 سنة بدون أن آخذ راتبي ومازلت أعتبر نفسي معلماً".
سيكلف هذا الموقف عوني الشيخ كثيرا فهو لم يتزوج لضيق الحال، كما أنه يعتاش على مصدر دخل وحيد وهو تربية الأغنام. حين سألناه عن ذلك قال: "الجهاد في سبيل الله اضطرني لتربية الأغنام" وأكمل يحكي عنها: "لقد ترك لي والدي غنمة واحدة، وكان من المفروض أن أقوم ببيعها ولكن الذي حدث..." (يأخذك الخيال للتفكير بحرية الموقف بعيدا، وكأن شرط الموقف الحر هو مصدر دخل حر، كان عوني الشيخ سعيداً بما يروي وكأنّه غير نادم على أي قرار اتخذه، بل كان ذاهباً إلى أبعد من ذلك حين استمر لسنوات عديدة برفض التعامل بالعملة الإسرائيلية، إلا أن الناس اضطرته إلى ذلك بعد أن أصبح التعامل كله بالعملة الإسرائيلية، كما يقول).
يكمل الشيخ حديثه لنا عن قصة اعتقاله على خلفية عدم حمله للهويّة، ويحكي كيف أنه رفض محاولة ابعاده إلى الأردن بعد رفض حمل بطاقة الهويّة، ويتذكر اضراب ال150 يوماً المتواصل : "بعد اعلان الإضراب بأيام أدخلوا "بربيش" الحليب من أنفي وفمي وبكل قوة، وحاولت التمنع إلا أنني لم أستطع، وأخبروني أنَّ هذا إجراء يوميّ حتى فكّ الإضراب، وبعد عدة محاولات لمقاومة الأمر اتفقنا على أن يكون إدخال "البربيش" من أنفي فقط رغم أنّه أشّد ألماً إلّا أنّه لايليق أن أفتح فمي بشكل مهين ليدخلوا منه "البربيش". وبقيت مواصلاً للإضراب حتى تناولت الطعام في بيتي بعد أن تم إطلاق سراحي".
مرّت سنوات وسنوات، حتى قدمت السلطة الفلسطينة محملة بتباشير "الحكم الذاتي"، الذي سرعان ما اكتشف الفلسطينيون أنه الاحتلال وقد تخفف من أعبائه، يتقدم عوني الشيخ كغيره من الفلسطينيين لاستصدار بطاقة هويّة، إلا أن طلبه جوبه بالرفض، حيث أن استصدار البطاقات يتم بالتنسيق مع "الجانب" الإسرائيلي الذي رفض بدوره استصدار البطاقة للشيخ كما أخبروه.
يعود الشيخ لبيته وحيدًا يرعى غنمه، لا يعرف كثيراً عن أزمات السلطة المالية، حيث دعمه يأتي من تحت بيته، ولا يشغله إخفاقها السياسي حيث انتصاره يأتي من داخله. بدون هويّة ولا وظيفة مشروطة بأوامر عسكرية، قاتل الشيخ وحيداً.