استدعاء الأمير بندر بن سلطان للدفاع عن الدول الخليجية المطبّعة، وهجاء الفلسطينيين، وتحميلهم مسؤولية فشل تسوية القضية الفلسطينية، في تبرئة صريحة ومباشرة للعدوّ الإسرائيلي ومغالطة مكشوفة لحقائق التاريخ.. قد يبدو مستغربا للبعض، أو داعيا للنظر إليه على نحو استثنائي، بالنظر إلى أن اتفاقيات التطبيع الخليجي الإسرائيلي لم تزل مقتصرة على الإمارات والبحرين، وأنّ هذه الاتفاقيات خروج معلن عن المبادرة العربية، التي هي أساسا مبادرة السعودية.
هذا الاستغراب مستعجل، وقاصر عن ملاحظة الدعاية المنظّمة سعوديّا، في السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل، وربما يكون مقيدا بنظرة تبالغ في تقدير الادعاء بوجود خلاف جدّي حول التطبيع مع "إسرائيل" داخل الدولة السعودية، بينما مجرد ظهور بندر بن سلطان، بتاريخه وأدواره السابقة، وموقعه داخل العائلة الحاكمة، بما يمنحه صفة شبه رسميّة، يجعل السعودية، بحجمها الكبير، في موقع المتجنّد للدفاع عن المطبّعين الصغار، في مفارقة لافتة، وتستوجب نظرا خاصّا لتفكيكها.
لا تمارس السعودية بإعادة توظيف بندر بن سلطان، للدفاع عن المطبّعين الصغار، مجرّد دور حمائيّ لهؤلاء المطبّعين، وليست حمّى صدّ الهجمات عنهم؛ حميّة لشركاء الخليج، في وقت انحطّ فيه خطاب الدعاية ذاتها إلى مستويات غير مسبوقة، ولا متخيلة في سفلها في أزمة حصار قطر، ولكنّه دور وظيفيّ، في سياق تطبيعي، مستقل عن شركاء الخليج المطبّعين، تدافع فيه السعودية عن نفسها، ومتصل بشركاء الخليج المطبّعين، تنهض فيه السعودية بمتطلبات التحالف العربي/ الإسرائيلي، بما يستدعيه من محاولة إعادة صياغة الرأي العام العربي.
المستوى الرديء في الدعاية جزء من الرداءة العامّة، التي تجنح إلى إهانة العقل، لرداءة المتصدّرين، ولأنّ السياسات الرخيصة لا يمكن أن ينهض بها العقلاء، فلا بدّ أن يتصدّرها السفهاء، ولأنّها فقيرة من المعقولية والأخلاقية، فلا بدّ أنّ تشتغل على إثارة الغرائز الأوّليّة، كغرائز الكراهية، والعنصريّة، وتغذيتها بمتخيلات أسطورية تضخّم الذات وتحتقر الخصوم، وهو ما يهدف إلى خلق وعي عام يفتقر إلى الإدراك والتماسك، ومصروع بتلك الغرائز المتورّمة.
هذا النمط من الدعاية ظهر منذ بضع سنوات، بواسطة اللجان الإلكترونية السعودية، التي صار يصطلح عليها لاحقا بالذباب الإلكتروني، وإذا كان الهبوط المريع في الخطاب هو السمة السائدة لأداء ذلك الذباب، فإنّ تنظيم الدعاية ضدّ الفلسطينيين كان لافتا، ومثيرا للتساؤل أوّل الأمر، لا سيما مع انتفاء أدنى حدث من شأنه أن يفسر هذا التقصد باجتراح الإساءة للفلسطينيين، وتحريف حقائق قضيتهم، وإظهار الانحياز لعدوّهم.
بدأ يتضح بالتدريج وجود تحالف سرّيّ، بين عدد من الدول في الإقليم العربيّ والعدوّ الإسرائيليّ، برعاية إدارة ترامب. وقد قيل الكثير في هذا التحالف، الذي أخذ يعلن عن نفسه مع اتفاقيات التطبيع، التي حفّتها مراسم احتفالية مهووسة من الطرف العربي، أشبه بإعلان العشق المكتوم، وبلغت درجة من الهلوسة أقرب إلى اكتشاف الكامن الصهيوني في الذات، الذي يضيق بمسلسل "التغريبة الفلسطينية" الذي حذفته شبكة MBC من خدمتها الإلكترونية "شاهد" (تراجعت عن هذه الخطوة لاحقا بعد حملة ضد القناة)، وبأغنية يرددها ممثل مصريّ عن فلسطين حذفتها قناة مصريّة ممولة إماراتيّا. إنّه الإعلان عن معنى أن تكون صهيونيّا بسحنة عربيّة!
لم تكن حملات "الذباب الإلكتروني"، إلا تدشينا للتحالف، وتهيئة لأجوائه، وتمهيدا لطريقه، وارتكزت إلى افتعال خطاب معادٍ للفلسطينيين، ثم تضخيم ردود أفعال فلسطينية على ذلك الخطاب، وإبراز ردود الفعل تلك وكأنّها كاشفة عن عدوانية فلسطينية أصيلة سابقة على الخطاب المعادي للفلسطينيين. ويقتضي ذلك تنميط الفلسطينيين، في مسلك عنصريّ، يجعلهم كتلة واحدة من الخونة، وناكري الجميل، ومخربي البلاد العربية، وبائعي بلادهم.
جاهرت دعاية الذباب الإلكتروني، بتبني السردية الصهيونية، في بعض مستوياتها أو بكليّتها، كتحميل الفلسطيني المسؤولية عن مأساته، مما يتضمن بالضرورة تبرئة للمعتدي من عدوانه، وهو ما كان يصل في بعض مستوياته إلى التطابق الكامل مع التوظيف الصهيوني للمادة التوراتية، والشعار الصهيوني الذي ينفي أصالة الوجود الفلسطيني في فلسطين.
الفرق بين من يتبنّى الدعاية الصهيونية عن الحقّ التاريخي في فلسطين، وبين من يحمّل الفلسطينيين المسؤولية عن استمرار مأساتهم، هو فرق في الدرجة فقط، لا في النوع، فالثاني يردّد دعاية صهيونية كذلك، يبرئ بها الصهاينة من جريمتهم، ويجعل الضحية عدوّ نفسه بنفي المسؤولية عن العدوّ الحقيقي.
بندر بن سلطان، وبالإضافة إلى مجموع المغالطات والإساءات التي اقترفها بحقّ القضيّة الفلسطينية، هو من هذا النوع الثاني، في الاصطفاف داخل خندق الدعاية الصهيونية، في امتداد طبيعي لمنطلقات الذباب الإلكتروني، والتصاق بسلسلة من الشخصيات المعروفة، التي أُخرِجت في صحافة السعودية وأقنيتها التلفزيونية وعلى المواقع الإلكترونية، في تصعيد مهمة الذباب ضد الفلسطينيين.
ما قاله بندر بن سلطان تأدية لوظيفة رسمية، تعلن عن اصطفاف السعودية في خندق التطبيع، وأمّا المستوى الهابط فيما قاله فهو منسجم مع طبيعة المرحلة ومتصدريها.