في 28 سبتمبر 2000 اقتحم زعيم المعارضة الصهيوني في ذلك الحين أريئيل شارون، المسجد الأقصى ووصف خطوته بأنّها "رسالة سلام"، ووضعها في إطار "حق اليهود بزيارة أي مكان في أرض إسرائيل"، مصرّحًا أنّ "السلام لا يمكن أن يتحقّق من دون السماح لليهود بالصلاة في المكان الأقدس بالنسبة إليهم".
فجّر اقتحام الأقصى انتفاضة فلسطينية عارمة انطلقت من الأقصى إلى شوراع القدس، ومنها إلى كلّ فلسطين، واستمرت قرابة خمسة أعوام سطّر فيها الفلسطينيون مظاهر الصّمود، والالتحام مع الاحتلال، والمقاومة.
أكّدت انتفاضة الأقصى أنّ المسجد مفجّر أساسي للمواجهة مع الاحتلال، مثلما كان في ثورة البراق عام 1929، وفي هبة النفق عام 1996، وكما سيكون في انتفاضة القدس عام 2015، وفي هبّتي باب الأسباط وباب الرحمة عامي 2017 2019 على التوالي.
ومنذ الانتفاضة الثانية، توالى على الأقصى غير مخطّط للاحتلال بهدف تكريس السيادة الإسرائيلية على المسجد ضمن رؤية تقوم على أنّ "من يسيطر على الأقصى يسيطر على البلاد"، وفق تصريحات مسؤولين إسرائيليين. فطرح أعضاء في "الكنيست" مشروع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد، وإقامة مفوضية يهودية موازية للأوقاف تتولى ترتيب الصلوات التلمودية، واقتراحات للسماح لليهود بممارسة "حقهم" بالصلاة في المسجد. وعلى الرغم من فشل هذه المقترحات، فقد تمكّن الاحتلال من تحقيق بعض الاختراقات كاقتحام الأقصى يوم عيد الأضحى في آب/أغسطس 2019 بذريعة "ذكرى خراب المعبد"، وسماح الشرطة للمستوطنين بالصلاة في المسجد.
لكن مع ذلك، فإنّ الاعتداءات الكبرى على المسجد قابلتها محطات مقاومة وصمود إذ تصدّت لها جماهير القدس وأحبطتها، كما جرى مع تركيب البوابات الإلكترونية بعد عملية الأقصى في تموز/يوليو 2017، ولدى وضع قفل على الباب المؤدي إلى باب الرحمة المغلق منذ عام 2003. ومع ذلك، تبقى عين الاحتلال على تغيير الوضع القائم في الأقصى، وضمّه إلى السيادة الإسرائيلية لأنّ ذلك مدخل إلى تثبيت مزاعمه حول سيادته على القدس التي يتطلّع إلى تكريسها عاصمة للشعب اليهودي.
وقد وجد الاحتلال، بعد 20 عامًا على اندلاع انتفاضة الأقصى، دعمًا لتطلّعاته حيال المسجد وذلك في صفقة القرن الأمريكية وفي اتفاقات التطبيع مع الدول العربية التي ترعاها واشنطن ويباركها ترامب، إذ إن الصفقة واتفاقات التطبيع التي تنبثق عنها وتتكامل معها تسعى إلى فتح باب الزيارات التطبيعية للأقصى تحت الاحتلال، وتجعل دولة الاحتلال هي صاحبة القول في المسجد، ويختصر هذا التّوجه في تصريح جاريد كوشنر مستشار ترامب، الذي صرّح عقب الإعلان عن صفقة القرن أن "ثمة أمرًا مهمًّا ينبغي توضيحه في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وهو أنّ إسرائيل مستعدّة لاستقبال أيّ مسلم، وأن ّالمسجد الأقصى ليس محل اعتداء، والقدس مدينة مفتوحة وكل المسلمين الذين يريدون المجيء والصلاة بطريقة سلمية مرحّب بهم".
وفي ظلّ الإعلان عن اتفاقات التطبيع التي وقعتها الإمارات والبحرين، طرح مقالان في صحيفتي "جيروزاليم بوست" و"إسرائيل اليوم"، "تطبيع" الأقصى، بحيث يصليّ كلّ من ولي عهد الإمارات ورئيس حكومة الاحتلال سويًا في المسجد كلّ بحسب تعاليم دينه، مع دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى المشاركة في الصلاة من باب "مد يد السلام إليه".
إذًا، تروّج صفقة القرن واتفاقات "السلام" الأخيرة لزيارات الأقصى التطبيعية تحت الاحتلال، وهي زيارات لا تختلف عن اقتحام شارون للمسجد قبل 20 عامًا،وكلا الدعوتين تقدمان الأمر على أنّه رسالة سلام، ويعزّز الاستقرار في المنطقة، والمؤكّد هو أنّ مثل هذه الزيارات تقدّم الأقصى للاحتلال، ومعه القدس وفلسطين.
الردّ على هذه الدعوات والاتفاقات والصفقات جاء من القدس ومن الأقصى، ليعلن رفض هذه الزيارات التي تجعل المسلمين "السلميين"، كما يركز ترامب وكوشنر على تسميتهم، ضيوفًا على دولة الاحتلال ترحّب بهم إن التزموا شروطها على قاعدة أنّها صاحبة المكان والسيادة، والقدس والمقدّس. وكان الرفض واضحًا في رفع صور ولي العهد الإماراتي في الأقصى وقد كتب عليها "خائن"، ومن قبل ذلك طرد المطبع السعودي محمد سعود من المسجد ومن البلدة القديمة في عام 2019.
واللافت أنه في الحالتين "تصدّت" سلطات الاحتلال للدفاع عن المطبعين فصادرت صور بن زايد واستنكرت قبل ذلك طرد المطبع سعود. ويؤكّد ذلك أنّ المطبعين سيكونون في حضن الاحتلال وتحت حمايته، لا تختلف زيارتهم التطبيعية عن اقتحام شارون للأقصى الذي لم يتجرّأ على تنفيذه من دون حماية مشدّدة من جنود الاحتلال.
ولعلّ الاحتلال يدرك أنّ العامل الشعبي هو ما سيكون العائق أمام هذه الزّيارات التطبيعية، وهذا ما يفسّر الحملة الشعواء التي يشنّها الاحتلال على المقدسيّين خصوصًا لتطويعهم وكسر إرادتهم عبر حملات الاعتقال والإبعاد عن القدس والأقصى التي تستهدفهم من دون توقّف. وهو ما يستوجب توفير الدّعم للمقدسيين خصوصًا وتثبيت صمودهم كونهم خطّ الدفاع الأول الذي يمكن أن يحبط الزّيارات التطبيعية.