انفض اجتماع الأمناء العامين إلى تشكيل لجان مفترض أن تنهي أعمالها خلال خمسة أسابيع كحد أقصى، على أن تقدم توصياتها إلى المجلس المركزي الذي سيدعى إلى الانعقاد بوصفه المرجعية العليا بعد أن فوضه المجلس الوطني (بشكل غير قانوني) باجتماعه الأخير بكل صلاحياته.
السؤال الذي يطرح نفسه: ألا يشكل الاحتكام إلى المجلس المركزي الذي لم تشارك فيه فصائل وازنة، وتقاطعه فصائل عديدة أبرزها الجبهة الشعبية، لغمًا يمكن أن يعصف بالمبادرة الجديدة في بدايتها؟
لذا، من الأهمية بمكان البحث في هذه المسألة وحسمها أولًا بالترافق مع الاتفاق على إنهاء انفصال غزة، كون هناك خلافات جوهرية حولها، بين من يريد إعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم مختلف الأطراف، وبين من يريد أن تلحق الفصائل الأخرى بالمنظمة وتشارك في المجلس المركزي كمراقبين أو أقلية، وبين من يريد تفعيل الإطار القيادي المؤقت (المختلف عليه) إلى حين تشكيل مجلس وطني توحيدي جديد.
لن أتوقف طويلًا أمام الاجتماع وأهمية انعقاده، كونه أمر إيجابي رغم تأخّره، ويعكس الشعور المتزايد من مختلف الأطراف بأهمية الوحدة جراء تزايد المخاطر التي تهدد الجميع، مكتفيًا بالتأكيد أن الأهم ما ستنتهي إليه اللجان والقرارات التي ستتخذ، خصوصًا أن ما جرى لجهة تحوله إلى مهرجان خطابي وليس اجتماعًا قياديًا لاتخاذ القرارات، وما انتهى إليه من تشكيل لجان؛ سبب خيبة أمل كبيرة، ولكن الحكم النهائي على الاجتماع بمقدوره الانتظار خمسة أسابيع.
سأقدم خارطة طريق لإنهاء الانقسام مستندًا إلى خبرة متراكمة مستمدة من انخراط كامل مني ومن مركز مسارات في البحث عن طريق لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، من خلال عقد عشرات الورش واللقاءات والحوارات وكتابة عشرات الأوراق التي قدمت توصيات واقتراحات ملموسة باعتبار الوحدة ضرورة وطنية وليست مجرد خيار من الخيارات، ولا تكتيكًا للتهديد وكسب الوقت لتحقيق استئناف المفاوضات وما سمي"عملية السلام"، واستخدامها كورقة تكتيكية ضاغطة لوقف مخطط الضم وسحب رؤية ترامب من التداول السياسي.
أزعم أن اعتماد حل الرزمة الواحدة الذي لم يعتمد عمليًا لأن التعامل مع الاتفاقيات كان انتقائيًا، والذي يطبق بالتزامن والتوازي، هو أفضل طريق وأقصره للوحدة على صعوبته، لأنه يقوم على مبدأ توازن المبادئ والمصالح، ويجعل الجميع يخرج منتصرًا، والأهم يجعل القضية الفلسطينية تنتصر.
فقد جرّبنا تأجيل الاتفاق على البرنامج السياسي رغم أنه مفتاح قفل الوحدة، بذريعة أن الخلافات حوله تنذر بفشل مبادرات الوحدة وتشكيل حكومة وفاق أو حكومة وحدة وطنية، أو تمكين الحكومة القائمة أولًا، بينما الواقع والحاجة والخبرة أثبتت أنه من دون بلورة برنامج واضح يحدد الأهداف وطريق وأشكال العمل والنضال لتحقيقها، وكيفية التعامل مع المتغيرات والعوامل والمحاور العربية والإقليمية والدولية أولًا، لا يمكن النجاح.
وجربنا إجراء الانتخابات أولًا وكمدخل لإنهاء الانقسام وحسم موقف الأغلبية، وفشل، لأن الانتخابات تحت الاحتلال وفي ظل الانقسام الذي يشمل المؤسسات المدنية والأمنية والقضائية، لا يمكن أن تكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها. فالوحدة ضرورية لفرض الانتخابات على الاحتلال، الذي لن يعطي الموافقة على إجرائها إلا مكرهًا، إذا كانت ستؤدي إلى تقوية الفلسطينيين في مواجهته، وسيرحب بها إذا كانت ستكرس الانقسام.
كما جربنا تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مجلس وطني، وفشل، وجربنا ولا نزال نجرب إدارة الانقسام ورهان كل طرف من طرفي الانقسام على انهيار أو قبول الطرف الآخر لشروطه لإنجاز الوحدة، وفشل، حيث لم يبق الأمر الواقع على ما هو عليه، بل يتدهور باستمرار، وتتزايد المخاطر التي باتت تهدد القضية الوطنية بالتصفية.
لا مفر إذا أردنا الوحدة من اعتماد حل الرزمة الشاملة الذي من أبرز معالمه ما يأتي:
أولًا: العودة إلى الشعب، والرهان أساسًا عليه، وليس إلى الفصائل فقط، وهذا يكون بإشراكه الحقيقي في الحوار والاجتماعات والمؤسسات، والاحتكام إليه في الانتخابات على كل المستويات حيثما وكلما كان ذلك ممكنًا.
ثانيًا: الاتفاق على رؤية شاملة تنبثق عنها إستراتيجية سياسية ونضالية، تحدد السياسة إزاء ما انتهى إليه اتفاق أوسلو والسلطة والانقسام، بحيث يتم سحب أو تعليق الاعتراف بإسرائيل، وتغيير السلطة لتصبح أداة لخدمة البرنامج الوطني، وما يقتضيه ذلك من تشكيل حكومة وحدة وطنية فورًا تحقق الشراكة الكاملة وتنهي التفرد والهيمنة لأي فرد أو فصيل على السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتقوم بتوحيد المؤسسات المدنية والأمنية والقضائية للسلطة في الضفة والقطاع بعيدًا عن الحزبية.
ويمكن البدء بتوحيد وتفعيل جهاز الشرطة بالضفة والقطاع، ودمج الموظفين بعد تحديد الأولويات والاحتياجات والمصالح الوطنية المتناسبة مع مرحلة التحرر الوطني، التي يترافق معها ويندرج فيها بناء ديمقراطي في السلطة التي يجب أن تصبح محررة من الالتزامات المجحفة، وإيجاد هيكل وظيفي رشيق وفعال من دون قطع رزق أحد، وإيجاد بدائل تحفظ للموظفين حقوقهم وعيشهم الكريم.
كما يقع على عاتق حكومة الوحدة معالجة آثار الانقسام، وتوفير سيادة القانون والحقوق والحريات، والتحضير لإجراء الانتخابات باعتبارها إحدى أدوات الصراع ضد الاحتلال وممارسة لحق جزء من الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، على أن يستند البرنامج الوطني إلى الحقوق الوطنية والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لعزل إسرائيل، وللبناء على ما تحقق، وليس البدء من الصفر، وعلى الاتفاق على توفير مقومات الصمود والتواجد البشري والمقاومة المثمرة، وتوحيد الأجنحة العسكرية في قطاع غزة في جيش وطني واحد أو اعتماد مرجعية وطنية تخضع للقيادة الواحدة والإستراتيجية المتفق عليها.
ثالثًا: تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مجلس وطني توحيدي جديد، بمشاركة واسعة لممثلين عن المرأة والشباب والشتات، على أساس المشروع الوطني الجامع المجسّد لوحدة القضية والأرض والشعب، مع الاعتراف بأولويات واحتياجات كل تجمع، على أساس يجمع ما بين النضال لإنهاء الاحتلال، وتجسيد الدولة والاستقلال الوطني، وحق العودة والتعويض، والمساواة الفردية والقومية لشعبنا في الداخل، كخطوة على طريق إنجاز الحل الديمقراطي (الدولة الواحدة) شرط أن تقام على أنقاض المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي.
رابعًا: استمرار توسيع صيغة اجتماع الأمناء العامين على أسس ومعايير موضوعية يتفق عليها بمشاركة قطاعات وتجمعات وشخصيات وطنية وازنة، بحيث تستمر لفترة مؤقتة لا تزيد على عام، بما لا يخل بمرجعية المنظمة، بحيث ترفع توصياتها للمجلس المركزي واللجنة التنفيذية للمصادقة عليها، باعتبار ذلك ضروريًا لأنه يجسد التوافق الوطني، وذلك من أجل التحضير لإجراء انتخابات للمجلس الوطني حيثما أمكن ذلك، وعلى تنفيذ حل الرزمة الشاملة التي يجب أن تطبق بالتوازي والتزامن، بما يضمن انخراط حركتي حماس والجهاد الإسلامي في المنظمة، في نفس الوقت الذي تتخلى فيه "حماس" عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة على أساس مشاركة سياسية حقيقية لكل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي.
ما سبق يدل على أن احتمالات فشل المحاولة الجديدة لا تقل، إن لم تزد، عن احتمالات نجاحها؛ ما يقتضي العمل على استدراك ذلك من خلال طرح هذا الأمر على طاولة الحوار على أعلى مستوى، وليس من خلال اللجان غير المخولة فقط، والأخذ بالصيغة المذكورة آنفًا أو أي صيغة يتفق عليها.
لا تزال هناك عقبات كبرى تحول دون استعادة الوحدة، وتتمثل في:
أولًا: عدم الإيمان بالشراكة، وتأثير جماعات مصالح الانقسام التي حققت نفوذًا وسلطة ومكاسب ووظائف لا يمكن التخلي عنها بسهولة، ما يقتضي أن يترافق الحوار مع ضغط سياسي متراكم من العناصر والقوى الحريصة على القضية، والمؤمنة بأهمية الوحدة.
ثانيًا: الرهان على المتغيرات الإقليمية والدولية، وعلى سياسة المحاور من طرف، واحتمالات فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وما يمكن أن يحدثه ذلك من إعادة فتح مكتب منظمة التحرير بواشنطن، وعودة العلاقات والمساعدات الأميركية للسلطة، والمساعي لإدارة الصراع واستئناف العملية السياسية من الطرف الثاني، مع أن سياسة الرهان على الآخرين لم يحصد أصحابها سوى الفشل وإضاعة الفرص لجعل العامل الفلسطيني موحدًا وفاعلًا وقادرًا على الاستفادة من الفرص عندما تتوفر، وتقليل الأضرار والخسائر عندما تتكاثر التهديدات والمخاطر.
ثالثًا: ضعف وتشرذم الأفراد والقوى الأخرى والحراكات الجديدة، وحصر الكثير منها هدفه بأخذ حصته في المشاركة، على أهمية ذلك من دون ربطها برفع راية المشروع الوطني ومستلزمات إحداث التغيير والتجديد والإصلاح المطلوب.
صحيح أن بايدن يختلف عن ترامب، ولكن الاختلاف ليس جذريًا، كما أن فرصه بالفوز غير مؤكدة، وإذا فاز سيعود إلى سياسة إدارة الصراع التي اعتمدتها الإدارات الأميركية السابقة والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وسيدعم إسرائيل، ولن يدعم اليمين المتطرف الإسرائيلي، ولكنه سيكون محكومًا بأن الذي يسيطر على إسرائيل حتى إشعار آخر هو اليمين المتطرف الذي لن يوفر جهودًا للمضي في السياسة التي سارت عليها الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، وسارت عليها الحكومات الإسرائيلية التي تقوم على القضم والضم الزاحف والتدرج على طريق إقامة وطن قومي لليهود معترف به على كل أرض فلسطين على حساب أصحاب البلاد الأصليين.
ويضاف إلى ذلك أن سياسة الانحياز لمحور في عالم ما بعد انهيار نظام القطبين والتضامن العربي وسيادة قطب واحد وصعود العولمة وسيادة المصلحة والمنفعة الخاصة على حساب القيم والأخلاق والعدالة والمصلحة العامة والقانون، وصعود إيران وتركيا، وغياب مشروع عربي تمثل مقتلًا للقضية الفلسطينية التي هي قضية جامعة كونها عادلة ومتفوقة أخلاقيًا، وعليها أن تقيم علاقتها مع كل الأطراف على امتداد العالم، استنادًا إلى مدى دعمهم للقضية قولًا وعملًا من دون انحياز لمحور، فهي المحور الذي يجب جذب مختلف الأطراف إليه.