تسرّب كثير من أخبار وأحوال الأسرى زمن هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزّة، وكان منها ما تقشعرّ لها الأبدان، وقد رأى الناس انعكاسات هذه الأهوال على وجوه وأجساد من أُطلق سراحهم واضحة للعيان، فضعف الجسد بشكل كبير وبدت الوجوه باهتة يُرى فيها أثر العذاب ومرارة قهر السجان بصورة جليّة واضحة.
أمّا عن شهادة المعتقل الشيخ عز الدين عمارنة الذي لم يراعوا أنه كفيف البصر أو أنه مسنّ أو مريض أبدا، هاكم في البداية لحظاته الأخيرة من هذه الحبسة المريرة:
نعق "الحوفيش" الممرّض على اسمه وهو في غرفة الانتظار الأخيرة حيث آخر محطة من محطّات هذه الحبسة المريرة، لقد مرّروه في ماكينة العذاب التي أعطته من تجلياتها ما لم يخطر على قلب بشر، والآن في لحظاتهم السوداء الأخيرة هناك من قذائف الحقد ما يعدّ لهذه اللحظة، قد يبلغونك بتجديد الحبس الإداري، احتمال وارد يخرجك من هذه الغرفة التي يكدّسون فيها المعتقلين كما هو حال علبة السردين إلى حيث رحابة السجن، حيث يعاد انتشارك بشكل آخر لا يقلّ كآبة ومهانة.
ولكنّه "الحوفيش" الممرض هل تذكّر أخيرا أن يعطيني دوائي الذي حجزه عني منذ السابع من تشرين الأول/ كتوبر؟ هل أصابته وخزة ضمير أو أراد أن يطبع في قلبي صورة مغايرة لتلك الصورة الشنيعة؟
تقدّمت واثق الخطى حتى إذا اقتربت من الطاقة اللعينة التي منها تؤتى أوامر تجديد الاعتقال نعق من جديد:
- اقترب أيها الشيخ الجليل.
"ما هذا الاحترم، أكيد يريد تحسين الصورة".
تشجّعت وتقدّمت حتى إذا صار وجهي قرابة وجهه بصق بكل ما أوتي من قوّة حاقدة، وأتبع ذلك بسيل من المسبّات التي لا يطاوعني قلمي لذكرها فأتعب قلوبكم بها. ثم انصرف وهو يقول: كي تتذكّرني جيّدا يا ابن الـ...
لقد كان لهذا العدوان على غزّة الأثر الكبير على مضاعفة العذاب على أسرانا، وقعت الحرب ووقع سخطهم وقهرهم على السجون ومن فيها من معتقلين ومعتقلات، توحّشوا وأخرجوا كلّ ما في جعبتهم من شرّ وقمع وعدوان، وجدوا في السجون مكانا لتفريغ شهوة الانتقام وصبّ ما في صدورهم من أحقاد.. ما يسمّى بوزير الأمن القومي ابن غفير والذي أعلن مسبقا عن نيّته في استهداف السجون، هذا المتطرّف المجنون سلّموه رقاب أسرانا ليفعل بها ما تملي عليه أحقاده، ووجد في هذه الحرب فرصة ذهبية له، فالشارع الإسرائيلي يحظى بتعبئة فظيعة من الكراهية من قبل زعامته اليمينية المتطرّفة ومن قبل إعلامهم الذي أجمع على هذه التعبئة السوداء، فوجد الأسرى أنفسهم أمام فِرق متوحّشة قد حظيت بذات التعبئة النازيّة الحاقدة وقد أفلتوها عليهم كما تفلت الكلاب الضارية على فريستها.
الشيخ عز الدين عمارنة كان أحد الأسرى الذين أطلق سراحهم وذلك بعد قضاء سنتين في الاعتقال الإداري، بدا أنه هرم وقد خطّت آلام السجن أخاديد في وجهه، وهن العظم واشتعل الرّأس شيبا وتقوّس الصدر وغارت عيناه التي لا يرى بهما عميقا في وجهه، والأصعب من ذلك كثيرا تهدّج صوته وحديثه عن معاناة السجن بصوت فيه كل ما في الحياة من مرارة وألم وحزن.
تحدّث عن أوّل العجائب، عن حجم الإهانات وخصّوا بذلك كثيرا ممّن اعتقدوا أن لهم مكانة سياسية أو يشكّلون قدوة وقيادة لغيرهم، هؤلاء "عجّبوا" عليهم بتوجيه الإهانات التي تفنّنوا في رميهم بها، منها البصق عليهم وشتم دينهم وربّهم وضربهم بالركل بالأرجل وتعمّد مسح الأرض بكرامتهم وتلقّيهم وجبات دائمة صباح مساء أمام بقيّة الأسرى. طبعا وقع العذاب على كلّ الأسرى بالضرب والتنكيل، ولكن خصّوا بعض من اعتقدوا أنهم قادة بالمزيد من الإهانة والإذلال.
وتحدّث عن عجيبة البرد القارص الذي رافقهم في هذا الشتاء ليل نهار وحطّ كلّ أثقاله في أجسادهم النحيلة، فلا طعام يعطي بعض الدفء ولا ملابس ولا أغطية، سحبوا منهم ملابسهم الثقيلة والخفيفة وألقوها في حاويات الزبالة، تركوهم فريسة للبرد القارس الشديد، والذي لا يعرف برد السجون الصحراوية (النقب ونفحة وريمون) لن يدرك حجم البرد الذي دخل أجسادهم. كنا قديما نستلم سبعة بطاطين، في الشتاء نلبس كل ما لدينا ثم نتغطّى بالبطاطين بالسبع ومع ذلك يتسرّب إلينا البرد، فكيف بهم في الشتاء المنصرم بلا أغطية ولا ملابس سوى القميص والبنطال، وأسرى غزّة عراة؟ البرد عذاب دونه أيّ عذاب.
وتحدّث عن عجائب القمع خاصة الذي ترافق مع بداية الحرب على غزّة، وكأنّهم قد فتحوا جبهتين لعدوانهم السافر؛ جبهة في غزّة والثانية في السجون، كانوا بأعداد كبيرة إذا هجموا على قسم استفردوا به غرفة غرفة فتنزل هراواتهم على رؤوس المعتقلين بلا هوادة، فتسيل الدماء غزيرة وتبقى الجروح دون علاج أو تضميد لتتقرّح بعد ذلك ويبقى الألم طويلا، وكذلك ما يحدثونه من كسر للعظام خاصة عظام القفص الصدري وهتك نسيج العضل، يزرعون الألم المستدام. وويل للذي يرفع رأسه أو صوته، يقابل ذلك بالمزيد من الضرب، وقد سقط شهداء نتيجة هذا الضرب الذي لا يعرف حدودا مثل المعتقل الشابّ ثائر أبو عصب الذي ضربوه حتى الموت. ومن أشكال القمع أيضا سحب الأغطية لأيام طويلة فتبقى الغرفة جرداء لا يجدون ما يدثّرهم لا على الأرض ولا على أجسادهم المنهكة.
وتحدّث عجائبهم مع المرضى والمسنّين خاصة ذوي الأمراض المزمنة والتي تتطلّب تلقي الدواء بشكل دائم، هؤلاء تلذّذوا بعذابهم وحرمانهم من أدويتهم، ما أدت إلى استشهاد بعضهم مثل خالد أبو شاويش وعمر ضراغمة وعرفات حمدان؛ الشاب مريض السكري الذي توفي بسبب عدم إعطائه دواءه لعدة أيام. الإهمال الطبي هو دأب السجون، وراح ضحيته عشرات الشهداء منذ نشأة هذه السجون، ولكنهم بعد السابع من أكتوبر ضاعفوا عدوانهم ونكّلوا بالمرضى وبلغ إهمالهم درجة كبيرة، فلا علاج ولا دواء حتى حبّة الأكمول التي كانت عماد علاجهم أصبحت عزيزة نادرة، وإذا أضيف إلى الوضع الصحّي الناتج عن سوء التغذية والبرد الشديد والضغط النفسي الفظيع، فالوضع أصبح لا يطاق وحياة الأسرى المرضى أضحت في خطر شديد.
ومن عجائب عذابات السجون أن لا تجد أية خصوصية للنساء في السجون، فالتنكيل والتعذيب طالهنّ بكلّ قسوة وضراوة، وكان أفظعها جريمتا اغتصاب التي أفردتُ لها مقالا خاصّا بعنوان: "لم يعد الصمت محتملا"، بعد تسجيل شهادة سابقة خطيرة يجب أن تصل كلّ الآفاق الممكنة قانونيّا وإعلاميّا. المرأة الفلسطينية في سجونهم ذاقت الأمرّين ولم تُحترم أية خصوصية، وكل العجب من مؤسسات المرأة المحليّة والعالمية التي تصمت صمت القبور على هذه الجرائم الفظيعة بحق المرأة المعتقلة في السجون الإسرائيلية.
أمّا عجيبة قطع الكهرباء والماء فهذه معاناة أضرّت بالمعتقلين كثيرا، فلا بديل للكهرباء لإضاءة الحمّام بل هي العتمة الكئيبة والليل البهيم الذي يقع عليهم، أما الماء فلا يسعهم أن يشربوا إلا حين توفيرها ساعة أو ساعتين كل أربع وعشرين ساعة فلا ماء للشرب ولا للحمّام الذي يبقى في هذه الحالة برائحة كريهة لا تطاق إذ يستخدمه من العدد ضعفا الحالة الطبيعية، أي بدل ثمانية أشخاص تجد ستة عشر شخصا لحمّام واحد دون مياه، هذه بحدّ ذاتها معاناة لا تذكر أمام الضرب والإهانة والتكسير ولكنها معاناة قاسية على مدار الأربع وعشرين ساعة.
ومن عجائب السجون هذه الأيام حالة الاكتظاظ الشديد الذي يضيف إلى حياة السجن كربات فوق كرباته. ومن المعلوم أن السجون في الآونة الأخيرة قد حقّقت استحقاق العدد المعقول في الغرف بما يتناسب مع مساحتها إلّا أنهم وبعد هذا العدوان نكثوا كلّ التفاهمات السابقة ومنها المزيد من الاكتظاظ فيتم افتراش الأرض بين الأبراش وتصبح الحركة صعبة جدا والتهوية قاسية ورائحة الغرفة قاتلة، خاصة مع قطع المياه وحرمان الأسرى من الحمّام إلا أن يأتي الأسير الدور بعد عدّة أيام.
ومن العجائب أيضا حركة المحاكم وزيارات المحامين والتي وُضعت في طريقها كلّ العراقيل وأكدت هزلية محاكمهم خاصة محاكم الاعتقال الإداري، حيث يجري الاعتماد ليس فقط على التقرير السرّي الذي دأبوا على الاستناد إليه، وإنما هذه الأيام يكفي مزاج ضابط المنطقة وقراره بالاعتقال لأتفه الأسباب أو ليظهر بأنه يتابع منطقته ويعتقل منها كثيرين بقبضة حديدية تُحدث الإرهاب والردع المطلوب عدا عن التعبير عن روح الانتقام التي رافقتهم بعد السابع من أكتوبر.
هذا غيض من فيض ولكنها الشهادة التي يخرج بها كلّ الأسرى المحرّرين، والتي تؤكد حالة الساديّة والروح الانتقامية التي وقعت ضحيتها سلطات الاحتلال المتوحّشة الغاشمة. والسؤال الكبير: هم غيّروا كثيرا ورفعوا درجة عدائهم عاليا فماذا نحن فاعلون؟ هل نبقى في البكائيات وتحويل قضية أسرانا إلى حائط مبكى؟ هذا سؤال كبير لا أدّعي القدرة على الإجابة عليه وإنما هو المطلوب من القيادة الفلسطينية بكل درجاتها إن أرادت أن تبقى داخل المشهد.