لم يعد خافياً اليوم أن الكيان الصهيوني يخوض حربه الحالية مدفوعاً بالحاجة النفسية للانتقام ومداواة جرح الذات المتضخمة التي مرغها يوم 7 أكتوبر في التراب، وأن هذه الحرب الانتقامية لا تحمل الحد الأدنى من الرؤية، ولذلك تعجز عن تحقيق الحد الأدنى من الإنجاز العسكري: فهي لم تحرر أسيراً صهيونياً بالقوة، ولم تمس بقدرة المـ.ـقـ.ـاومة على موصلة الحرب لليوم 88 على التوالي، ولم تظفر بهدف استراتيجي من المـ.ـقـ.ـاومة قائداً كان أو منظومة أنفاق أو مخزن سلاح، وهذا ما يجعلها اليوم حرب القتل لأجل القتل والتدمير لأجل التدمير.
حتى الإجرام والقتل الجماعي في الحرب يتخذ وسيلة لهدف: إبادة الفئة أو الشعب المستهدف، أو إجلائه من الجغرافيا، وعادة ما يلجأ المجرم في هذه الحالة إلى إضفاء الشرعية على جريمته من باب فعاليتها النفعية؛ أنها حققت أهدافها، فهي جريمة "مفيدة" وهذا ما يجعلها مقبولة، وهذا منطق سبق أن استخدمه الصهاينة أنفسهم في نكبة 1948 وفي حرب 1982، واستخدمته أمريكا في العراق وأماكن عدة من قبل، لكن معضلة الصهاينة اليوم أن جريمتهم يصعب تسويغها حتى بهذا المنطق، فهي جريمة لا تحقق أهدافها: لا تتمكن من إبادة أهل غزة أو تهجيرهم رغم امتلاكها كامل النية لذلك، وهو ما يجعلها جريمة لأجل الجريمة، جريمة فيها المواصفات الكاملة لتحميل صاحبها مسؤوليته ولتنصل شركائه منه، وهذا ما سنشهده من اليوم فصاعداً انطلاقاً من هذه الحرب.
المعضلة الأساسية التي تفسر هذا العجز عن تحقيق الأهداف النهائية رغم إلحاق ضررٍ فادح بغزة هو غياب الرؤية أمام الثبات الأسطوري للمـ.ـقـ.ـاومة وحاضنتها، فما درجت عليه القوى الاستعمارية هو أن تنظم استخدامها لما تمتلك من فائض قوة وتكنولوجيا وعتاد في نظرية توضح الأهداف والوسائل والأدوات؛ فلا تكتفي بامتلاك أفضلية كبيرة في القوة بل تحرص على توظيفها بشكل يضمن كسر شوكة أي مـ.ـقـ.ـاومة، بينما يعجز الصهاينة اليوم حتى عن تحديد أهداف منطقية قابلة للتحقيق في الحرب؛ فقيادتهم تصر منذ بداية الحرب على أهداف إجمالية مثل: القضاء على المـ.ـقـ.ـاومة، تهجير أهل غزة، تجريد المـ.ـقـ.ـاومة من سلاحها، تحرير جميع الأسرى بالقوة، لكن الجيش في استكشافه العملي يعيد طرح أهداف مثل منطقة عازلة في غزة، واحتلال محور الحدود مع مصر...فالقيادة السياسية تنظّر للحد الأعلى فيما يبحث الجيش عن الحد الأدنى دون أفق واضح لفرضه.
أمام العجز عن تحديد الأهداف يمسي وضع الوسائل والأدوات لتحقيقها متعذراً، ويمسي الرهان على آثار القوة أقرب للمقامرة منه إلى الخطة المنظمة: ضرب الخصم بكل قوة لعله يستسلم، ومع توجيه معظم الضربات للحاضنة المدنية والعجز عن كسر شوكة المقاتل فإن الصهاينة يخوضون الحرب اليوم بعقلية المقامر، الذي كلما خسر أكثر أصر على مواصلة المقامرة ليستعيد كل ما خسره إلى أن يخرج مفلساً... ولعل هذا ما يفسر اليوم احتمال المجتمع والقيادة الصهيونية لخسائر كانت تفوق تصورهما حتى وقت قريب.
إن صح هذا التحليل فهو يوضح لنا صورة التناقض الصهيوني في هذه الحرب: الإصرار على إرادة الحرب رغم عجزها عن تحقيق الأهداف، وهو يعني أن نهاية هذا الحرب يمكن أن تأتي بإحدى طريقتين: إما أن يتدخل طرف حريص على الصهاينة لترشيد سلوكهم وإقناعهم بالحد من الخسارة ووضع نهاية للحرب، وإما أنهم سيستمرون في الحرب حتى انقطاع النفَس، ونقطة نهاية الحرب حينها ستكون ببساطة العجز عن مواصلتها.
الطرف الوحيد القادر على ترشيد السلوك الصهيوني هو الولايات المتحدة، لكن فرص ذلك تبدو ضئيلة إذا ما نظرنا إلى استمرارها في الدعم المطلق حتى للخيارات الصهيونية التي لا تروق لها، وأمام تجربتها البائسة في أوكرانيا وعجزها عن تشجيع الاتفاق حين كان ممكناً، وعجزها عن منع انقلاب الحرب إلى كفة الخسارة المطلقة؛ وهذا يتركنا مع الاحتمال الثاني: العجز عن مواصلة الحرب.
العجز عن المواصلة مرتبط بمؤشرات عدة لها علاقة ببنية الجيش ومعنوياته ومعداته، واستعداد المجتمع وتماسكه، وتماسك القيادة السياسية، واستمرار الغطاء الدولين لكن لا شك أنها ليست جميعاً بنفس الأهمية، وربما يكون المؤشر المركزي من بينها هو قدرة سلاح المدرعات؛ فالجندي الصهيوني لا يقبل دخول غزة إلا في مركبة محصنة، وهذا ما خبِرته المـ.ـقـ.ـاومة جيداً منذ الانتفاضة الثانية ولذلك تركز حربها ضد سلاح المدرعات، لأن نهاية الحرب ستفرض عندما تنتهي قدرة سلاح المدرعات على الاقتحام البري، ولذلك أيضاً اختارت كتـ.ـ!ئـ.ـب القسـ.ـ!م أن تسمي قذيفة مضاد الدروع باسم قائدها المؤسس: قذيفة اليـ.ـاسـ.ـين، فهي عماد الحرب وبوابة حسمها.
خسر سلاح المدرعات حتى الآن ما لا يقل عن 900 مدرعة إذا ما استثنينا سيارات الجيب والجرافات من الأرقام المعلنة للآليات التي استهدفتها المـ.ـقـ.ـاومة، وهذا رقم يساوي نصف حجم سلاح المدرعات الجاهز للقتال؛ والذي يقدره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS بنحو 1840 مدرعة، نظراً لاستثناء آلاف مدرعات الإم 113 من الحسابات بعد مجزرة ناقلات الجند في شهر 7-2004 والتي تمكنت فيها المـ.ـقـ.ـاومة من قتل 11 جندياً تحولوا إلى أشلاء داخل تلك المدرعات بقذائف دروع أحادية الرأس، ما أدى لاتخاذ القرار بمنع دخول هذه المدرعة إلى غزة والشروع بالخطط التصنيعية لناقلة النمر.
بمعايير العقل يفترض أن يكون الاحتلال الصهيوني قد أعلن بالفعل نهاية المعركة، لكن هذا الاندفاع النفسي للثأر ومداواة غرور القوة المتضخم يجعل التوقف أمام الخسارة المقدرة غائباً عن الحسابات، فقد كانت خسارة 50 مدرعة في معركة وادي الحجير في حرب لبنان 2006 كفيلة بإنهاء الحرب حين كان الرشد ما زال حاضراً في إدارة الحرب الصهيونية، أما اليوم فإن نصف سلاح المدرعات تقريباً لا يدفع لإنهاء المعركة، ما يجعلها أقرب لقتال عدو مخمور يدرك خسائره عندما يصحو من سكرته، خصوصاً وأنه ينتشي بما يجبيه من آلام ودماء وحصار الحاضنة المدنية للمـ.ـقـ.ـاومة.
في الخلاصة؛ هذه المعركة مفتوحة على معاندة صهيونية وأمريكية لموازين القوى، وعلى محاولة صهيونية لتمديد أمد الحرب عبر فتح جبهة جديدة، ومحاولة توريط الولايات المتحدة لتصبح طرفاً مباشراً في الحرب، وهو ما يفسر المبادرة الصهيونية للتصعيد على الجبهة اللبنانية في الأيام الماضية، والمبادرة الأمريكية بالمقابل لسحب حاملة الطائرات جيرالد فورد، لتؤكد أنها لا تريد الانجرار إلى هذه الحرب، أما الأفق الزمني المحتمل لنهاية الحرب فهو وصول سلاح المدرعات إلى عدد يعجز عن تلبية حاجات المعركة، وهي نقطة مرشحة للتحقق مع نهاية شهر 1-2024، مع احتمالية أن يُفتح قبلها نقاش حول إمداد الجيش الصهيوني بمدرعات ألمانية وأمريكية لعلها تطيل أمد الحرب.
رغم الألم الشديد والثمن الباهظ، فهذه حرب تتعاظم نتائجها الاستراتيجية كلما أطال الصهاينة أمدها بمعاندتهم لموازين القوى، وستفتح من بعدها بوابات شروخٍ كبرى في النظام اسياسي وفي الجماعة الاستيطانية الصهيونية، وهذا ما بدأه طوفان الأقصى حين انطلق من عنوان خلاف صهيوني هو الإحلال الديني في الأقصى، وعززته المحكمة الصهيونية العليا أمس بفتحها باب الأزمة الدستورية، ويعززها نتنياهو وحكومته بقيادتهم النفعية، وستفتح من بعدها بوابات البناء على نتيجة هذه الحرب باستئناف المعركة في الضفة الغربية وفي المسجد الأقصى.