المسافة بين خطاب يتمسك بالمبادرة العربية، ويدعو لعقد مؤتمر دوليّ للسلام، أي يتمسك بالمسار الذي أفضى إلى الواقع الذي يفترض بأن اجتماع الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية انعقد لمجابهته، وبين خطاب يدعو للقطيعة مع اتفاقية أوسلو، وتفعيل أشكال المقاومة كافّة ومنها العسكرية، هي مسافة بعيدة، نظريّا وواقعيّا، بيد أنّه والحال مرتبك، وظهر الفلسطينيين مكشوف، والأزمة مستحكمة، يفترض أن تقلّص توصيات المجتمعين من تلك المسافة.
قرّر المجتمعون أنّ المقاومة الشعبية هي الخيار الأنسب للمرحلة، في إطار التأكيد على حقّ الفلسطينيين في ممارسة الأشكال النضاليّة كافّة، وتشكيل لجنة وطنية موحدة لقيادة هذه المقاومة الشعبيّة الشاملة، وتشكيل لجنة أخرى لتقديم رؤية لإنهاء الانقسام، خلال خمسة أسابيع، ليناقشها المجلس المركزي لمنظمة التحرير بحضور جميع الأمناء العامّين.
وإذا كان قد مرّ وقت طويل دون ظهور إشارات على إطلاق مقاومة شعبيّة محدودة، فضلاً عن أن تكون شاملة، فإنّ الوقت غير بعيد لاكتشاف جدّية إنهاء الانقسام، على ضوء توصيات اللجنة، ومن خلال جلسة المجلس المركزي بحضور أمناء الفصائل التي لا تضمّها منظمة التحرير.
الوقت غير بعيد لاكتشاف جدّية إنهاء الانقسام، على ضوء توصيات اللجنة، ومن خلال جلسة المجلس المركزي بحضور أمناء الفصائل التي لا تضمّها منظمة التحرير
الخطاب الأول، لا يقرّ بخطأ المسار، وإنما يحمّل المسؤولية للوسيط غير النزيه، أي للولايات المتحدة، وهذا في حدّ ذاته أسوأ من الإصرار على المسار لأسباب أخرى، كالتورّط المعقّد فيه بما يجعل الخروج منه صعبا، ومصالح النخبة المستفيدة والطبقة الحاكمة. فالقناعة بسلامة المسار، تضيف أسبابا أخرى لترجيح أنّ التحوّل عنه مستبعد.
صاحب الخطاب الثاني، أي خطاب المقاومة وفي صدارتها العسكرية، والتخلّص من أوسلو، محتاج لصاحب الخطاب الأول. فالتخلّص من أوسلو هو قرار صنّاعه أوّلا، ولا يمكن ذلك، ولا تحمّل تبعاته، دون موقف وطنيّ واحد، يشترك الجميع في التخطيط له ودفع أثمانه. وأمّا المقاومة والظهر الفلسطيني مكشوف عربيّا، فأقلّ الممكن إزاءها إسنادها إلى تراصّ وطنيّ، إلا أنّ مجرد إطلاقها يحتاج مقدّمات، أهمّها إدراك الناس بوجود تغيّر حقيقيّ في قناعات صنّاع أوسلو، ثم في توجّهاتهم. وهذه الخطوة الأولى، التي ينبغي أن تتبعها أخرى من التعبئة وتغيير السياسات المتعددة التي انتُهجت منذ نهاية انتفاضة الأقصى، وتعزّزت بعد الانقسام الفلسطيني، وأفضت إلى كبح حركة الجماهير، وإغراقها فيما يتناقض مع واجبها التاريخي.
ثمّة من يقول إنه لا يجوز لقيادة مشروع التسوية التراجع عن المسار، لأنّ الخيارات السياسية لا تكون موسمية. المغالطة المكشوفة هنا، تُظهر عدم الاعتبار بكارثية المسار ومآلاته، فالتمسك بالتسوية بدأ نظريّا والتمهيد له منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وأخذت مصداقية تتبيّن في الواقع مع توقيع اتفاقية أوسلو، أي منذ ثلاثين عاما تقريبا، فإعادة النظر في المسار، بعد هذه العقود الطويلة، لا يمكن أن يوصف بالموسمية.
المقاومة والظهر الفلسطيني مكشوف عربيّا، فأقلّ الممكن إزاءها إسنادها إلى تراصّ وطنيّ، إلا أنّ مجرد إطلاقها يحتاج مقدّمات، أهمّها إدراك الناس بوجود تغيّر حقيقيّ في قناعات صنّاع أوسلو، ثم في توجّهاتهم
في المقابل تبدو الدعوة لإطلاق مقاومة شاملة، في طليعتها العسكرية، دعوة خطابية، هي بدورها لم تنظر في الشروط الموضوعية لإنجاح مقاومة كهذه، تضمن لها الانطلاقة الفاعلة، والاستمرارية المعقولة، والقدرة على امتلاك متطلبات تعزيز صمود الفلسطينيين في ظلّ مواجهة من هذا النوع؛ مع أزمات الفصائل المستعصية، وعجزها (الفصائل والسلطة) خلال العقد المنصرم، عن تعزيز صمود الفلسطينيين، لا سيما وأنّ ظهر الفلسطينيين اليوم منكشف أكثر من أي وقت مضى.
في المسافة الفاصلة بين الموقفين، اللذين ينطوي كلّ منهما على مشكلاته، تأتي مقرّرات المجتمعين لتقليص المسافات، بما يراعي مخاوف الطرف الأوّل، طرف السلطة، وتردّده، وأزمة خياراته، في مركّبها، من استمرار الإرادة على المسار نفسه، والخشية من المواجهة، بما تتضمّنه بالضرورة من خسارة المكاسب الضيقة للنخبة، وتعقيد واقع السلطة داخل إكراهات الاحتلال، ويراعي ضعف ممكنات الطرف الثاني (أي المقاومة) في ساحة الضفّة الغربيّة تحديدا.
المقرّرات لا تفعل شيئا بمجرّدها، لكنها في أحسن أحوالها قد تقود إلى تقدم بطيء في التقريب بين أصحاب الخطابين، وفي تعديل مسارات صنّاع أوسلو. وهذا وإن لم يكن أقصى المأمول، إلا أنّه ليس سيّئا مع انكشاف الظهر، وضعف الممكنات الذاتية، وحذر قيادة السلطة وترددها وارتباكها، وتفاقم أزماتها، وانحشار المقاومة في غزة داخل قيود من الحصار والحسابات الدقيقة.
المقرّرات لا تفعل شيئا بمجرّدها، لكنها في أحسن أحوالها قد تقود إلى تقدم بطيء في التقريب بين أصحاب الخطابين، وفي تعديل مسارات صنّاع أوسلو. وهذا وإن لم يكن أقصى المأمول، إلا أنّه ليس سيّئا مع انكشاف الظهر، وضعف الممكنات الذاتية
تُشترط حينئذ بدايات عملية لا خطابية، وإذا كان لا بد من انتظار نتائج توصيات اللجنة المنوط بها وضع رؤية لإنهاء الانقسام، وقرار المجلس المركزي بشأنها، ثم تنفيذ هذه القرارات، فإنّ الخطوات العملية، التي يمكن الانطلاق منها للبدء في مقاومة شاملة، والتمهيد نحو المصالحة الوطنية كثيرة، هي تلك الخطوات التي ما تزال مفقودة، إلا في سياق الخطاب الإعلامي.
اقتراب الانتخابات الأمريكية يُرَجِّح أنها ستبقى مفقودة، لأنّ استراتيجية قيادة السلطة حينئذ هي الانتظار، وفي الأثناء فراغ سياسيّ لا بد من تعبئته بشيء ما، هو هذه المرّة الحوارات والاجتماعات والخطابة. وعلى أيّ حال، فالاجتماع، ودفء الخطاب، خير من علوّ صوت الخصومة في ظرف خطير كهذا