السلوك السياسي لقيادة السلطة الفلسطينية، التي هي قيادة منظمة التحرير، في مواجهة حدث تاريخي ومفصلي هو ضم الكيان الصهيوني لأجزاء واسعة من الضفة الغربية وتطبيق صفقة ترامب، هو سلوك يثير الاستغراب إن لم يكن الاستياء.
إن إعلان قيادة السلطة في 19 أيار/ مايو 2020 وقف العمل بالاتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي وتحميله جميع المسؤوليات والالتزامات أمام المجتمع الدولي كقوة احتلال لأرض فلسطين المحتلة، وكل ما يترتب على ذلك من تداعيات وتبعات، هو بحد ذاته وفي إطاره النظري خطوة إيجابية وفي الاتجاه الصحيح.
غير أن هذه القيادة سعت لضبط وترتيب تموضعها الجديد بما يتوافق مع البيئة الدولية و”الشرعية الدولية”، بينما غاب عن إعلانها السياسي وعن إجراءاتها كل ما يتعلق بإعادة تموضعها الفلسطيني. ولم تُقدِّم إجراءً واحداً جاداً متعلقاً بترتيب البيت الفلسطيني؛ الذي اهترأت مؤسساته وأطره الدستورية والتنفيذية تحت قيادتها، ونتيجة إصرارها على الاستئثار بالسلطة وفرض سيطرة فصيل معيّن على مؤسساتها، وفرض سياسات وقرارات باسم “شرعيات” لم تعد تعبّر بأي حال عن إرادة الشعب الفلسطيني.
نفهم تماماً أن تتم مواجهة المشروع الصهيوني ذو النفوذ العالمي من خلال العمل في البيئة الدولية والمجتمع الدولي لتوسيع دائرة الدعم والتعاطف مع قضية فلسطين، لكننا لا نتفهَّم إطلاقاً أن تطير هذه القيادة بجناح واحد، ولا نتقبل إطلاقاً أن تقود المشروع الوطني الفلسطيني ببيت خَرِب؛ هذا على افتراض أنها ما زالت صالحة للقيادة. بعد 27 عاماً على اتفاقات أوسلو الكارثية، وبعد 27 عاماً من استخدام الكيان الصهيوني لمسار التسوية كغطاء لتهويد الأرض والمقدسات، وبعد أن تمكّن هذا الكيان من تحويل السلطة الفلسطينية إلى سلطة وظيفية تخدم أغراضه، سلطة أهم مبرر لوجودها بالنسبة له هو “التنسيق الأمني” وقمع المقاومة ومطاردة المقاومين، وبعد أن تجاوز الاحتلال أوسلو ومترتباتها، وألغى عملياً حلّ الدولتين ومزّقه، واستعان بالولايات المتحدة لفرض واقع جديد من خلال صفقة ترامب؛ بعد ذلك كله تأتي قيادة السلطة بخطاب سياسي مترافق مع قراراتها تقول فيه إنها ما زالت في “مربع التسوية”، وإنها ما زالت مع حل الدولتين؛ بل وتطمئن “المجتمع الدولي” أنها ملتزمة بمكافحة “الإرهاب” أياً كان شكله؛ ثم تضع بذلك مزيداً من الملح على الجرح فتطمئن الاحتلال أنها لن تسمح بالانتفاضة في مناطق سيطرتها.
من الناحية العملية فإن مكافحة الإرهاب وفق المفهوم الغربي (المهيمن على البيئة الدولية) في التطبيق الفلسطيني هو محاربة خط المقاومة المسلحة الفلسطينية، وخط الانتفاضة، وخط العودة للثوابت التي تشكلت على أساسها منظمة التحرير.
وهل يحتاج الصهاينة طمأنة أكثر من هذه الطمأنة ما دام برنامجه في التهويد والضم قائماً على قدم وساق، وما دام اللاعب الفلسطيني “الرسمي” يتولى أعمال الحراسة ويقوم بالمهام القذرة بالنيابة عنهم؟
فليشتموا وليحتجوا وليصرخوا كما يحبون، فالمجتمع الدولي الذي تراهن عليه السلطة لم يستجب مرة واحدة طوال السبعين عاماً الماضية لآلام الفلسطينيين ومعاناتهم، من خلال فرض إرادته أو قراراته على الكيان الصهيوني. ولدينا أكداس من القرارات الدولية تزيد عن 530 قراراً لم يتم تنفيذ قرار واحد منها.
وطوال الخمسين عاماً الماضية نحصل على قرارات بدعم حقوقنا بأغلبية تزيد عن الثلثين (معدل 142 دولة من أصل 195 دولة تقريباً) وطوال هذه المدة استمر الكيان الصهيوني “دولة فوق القانون” وكياناً مدعوماً بالطغيان والهيمنة الأمريكية، واستمر في بناء الحقائق على الأرض، بل وتزايدت البلدان التي تسعى لبناء علاقات مع الجانب الإسرائيلي وعدم إغضابه وخصوصاً القوى الكبرى الصاعدة (الصين والهند وروسيا…)، كما زادت البلدان العربية التي تسعى للتطبيع معه، بما يكشف ويعزل العمل الوطني الفلسطيني، ويجعله أكثر صعوبة وضعفاً.
هل تريد قيادة السلطة مزيداً من التصويتات ومراكمة القرارات؟! لماذا، هل لنحصل على بضعة قرارات جديدة و”لنوسعهم شتماً… وليذهبوا بالإبل”؟
الجانب الذي يجب أن تدركه قيادة السلطة (ويبدو أنها لا تريد أن تدركه) هو أنه دون ترتيب البيت الفلسطيني، ودون وحدة وطنية فاعلة، ودون تفجير طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته في مواجهة الاحتلال، فلن تحقق شيئاً وستبوء بالمسؤولية التاريخية عن تضييع ما تبقى من فلسطين.
فلماذا تتجاهل قيادة السلطة الذهاب باتجاه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس حقيقية؟! ربما يمكن اختصار ذلك في أمرين:
الأول أنها تخشى أنه إذا ما حدثت مشاركة حقيقية للقوى الفلسطينية الفاعلة وتمثيل صحيح لأوزانها الشعبية، فإن هيمنة فتح على المنظمة ستضعف، وسيُعاد بناء المنظمة على أساس برنامج وطني غير متناسب ولا متوافق مع خط القيادة وخط فتح الحالي.
الثاني أن قيادة المنظمة تخشى أن تتسبب المشاركة القيادية الفاعلة لفصائل المقاومة المحسوبة على “الإسلام السياسي” وتحديداً حماس والجهاد الإسلامي، والمصنفة لدى العديد من الدول الغربية كحركات “إرهابية”، بإضعاف موقف المنظمة في البيئة الدولية، ونزع الاعتراف من المنظمة لدى هذه الدول.
ولسنا بصدد الخوض كثيراً في التفصيلات، غير أننا نسجل عدداً من النقاط التي نراها مهمة:
أولها، أن عنصر القوة الأساسي لأي بلد أو قيادة هو شعبها وأمتها، فَبِه تقوى وبه تنهض وبه تفرض احترامها على الآخرين؛ وأن العمل الدولي يأتي مكملاً وموازياً للعمل التحرري المقاوم وليس في مواجهته ولا نقيضاً له. وليس من المعقول أن يكون القبول الدولي مرتهناً بإضعاف البنية الشعبية والدستورية والمؤسساتية للشعب الفلسطيني.
ثانيها، أن أولى أولويات حركات التحرير وحركات المقاومة عندما تقوم تكون في استخراج واستجماع أفضل ما لدى شعوبها من طاقات وإمكانات ومن عناصر قوة، بحيث تنظمها في إطار مؤسسي ثوري، يتمكن بعد ذلك من فرض نفسه فرضاً على العدو وعلى البيئة الدولية التي لا تحترم القضايا العادلة إلا رافقتها لغة القوة.
ثالثها، حسب الدراسة التي قام بها أ.د. وليد عبد الحي للسلوك الدولي في التصويت لقضية فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في السنوات الثلاثين الماضية، فإن منحنى التصويت كان يرتفع لصالح فلسطين عندما تزداد عمليات المقاومة وفي أجواء الانتفاضات والصدام مع العدو الصهيوني، وكان المنحنى ينخفض في بيئات المفاوضات والتطبيع وإسكات صوت المقاومة.
ورابعها، أنه طوال الـ 27 عاماً الماضية سعت قيادة المنظمة والسلطة لإقناع الطرف الإسرائيلي والطرف الأمريكي والأطراف الدولية بـ”حسن سلوكها”، دون أن ينعكس ذلك إيجاباً من قِبَلهم على الأرض. ونفذت استحقاقات ضرب المقاومة، ومنع قواها من المشاركة في صناعة القرار الفلسطيني، وعاقبت قطاع غزة، وألغت المجلس التشريعي الذي تسيطر عليه حماس، واستخدمت المال السياسي للضغط على الجبهتين الشعبية والديموقراطية حتى وجدت نفسها تقف الآن على أنقاض بيت فلسطيني مُحطّم. ومع ذلك فإن الصهاينة والأمريكان لم يتعاملوا معها إلا كأداة تقوم بوظيفتها ولا تستحق الاحترام والاعتبار.
نحن أمام ظرف تاريخي كبير لم يعد يتحمل العبث ولا المناورات السياسية الداخلية، وبحاجة إلى قرارات على مستوى المرحلة، وإلى ارتقاء القيادات إلى مستوى التحدي ومستوى تضحيات الشعب الفلسطيني وتطلعات أمتنا العربية والإسلامية. وبالتالي، فعلى قيادة المنظمة والسلطة وفتح، أن تدرك أنها أمام استحقاق تاريخي جديد (وطوال تاريخنا نحن أمام استحقاقات كبيرة)، وأن الأمر لم يعد مرتبطاً بحسابات فصائلية ضيقة، وأنه آن الأوان كإجراءات مستعجلة ممكنة دعوة الإطار القيادي الموحد للاجتماع، وإنهاء التنسيق الأمني، ورفع العقوبات عن القطاع، وإطلاق الحريات في الضفة الغربية.
وبناء ذلك يتم السعي لتوحيد الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج تحت برنامج وطني قائم على الثوابت، وعلى إطلاق الانتفاضة بكافة أشكالها في الداخل الفلسطيني، وعلى الالتحام مع أمتنا العربية والإسلامية في مشروع نهضوي يسعى لتحرير فلسطين وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.