حملت فترة إغلاق الأقصى التي دامت 69 يوماً حتى الآن مستجداً مركزياً خطيراً تمثل بعقد اتفاقية بين الخارجية الأردنية والخارجية الصهيونية على ترتيبات إغلاق المسجد وإعادة فتحه، ما جعل قرار فتح الأقصى وإغلاقه محصلةً لإرادتين إسلامية - صهيونية، وليس قراراً إسلامياً خالصاً لأول مرة في تاريخه. هذه النقطة تحديداً هي التي ثارت لأجلها هبة باب الأسباط في عام 2017، وتمكنت عبر أسبوعين من الاعتصام الجماهيري الحاشد وثلاث عملياتٍ بدافع فردي، وتضامن شعبي عربي وإسلامي كان مركزه الأساس في الأردن؛ من فرض تفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات والحواجز الحديدية، وإعادة فتح الأقصى تماماً ودون شروط بفتحٍ شعبي حاشد.
اليوم تهدد هذه الاتفاقية بنسف كل ما أنجزته هبة باب الأسباط، وبتحقيق ما لم تتمكن القوة الغاشمة من تحقيقه من قبل، تحت غطاء وباء كورونا. الاتفاقية تحدث عنها مصدر حكومي أردني أمام عدد من النواب في مناسبات مختلفة، وتحدث عنها أعضاء مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس لمحيطهم ومقربيهم بعد أن أُبلغ المجلس بها دون أن يكون طرفاً في إبرامها، وعندما قدمت جماعات الهيكل طلباً للمحكمة العليا الصهيونية لإلزام حكومتهم بالإفصاح عن مضمون الاتفاقية ردت الحكومة بأن هذه الاتفاقية تمس العلاقات الخارجية والأمن القومي ولن تتحدث حول الأمر إلا في جلسة استماعٍ مغلقة، وهذا ما تم بالفعل. عقب جلسة الاجتماع المغلقة تلك خرج قاضي المحكمة العليا الصهيوني إسحق عميت وأبدى ارتياحه التام إلى أن "سيادة الدولة لم تمس في جبل الهيكل"، وأنه "لولا أننا أصحاب السيادة لما كان جبل الهيكل مغلقاً أمام المسلمين في رمضان".
بلبلة الصف المقدسي:
وضعت هذه الاتفاقية المقدسيين أمام مأزق، فهم أمام هجمة صهيونية لتصفية قضية مدينتهم ومقدساتها بغطاءٍ أمريكي، ويعانون من تخلٍّ مزمن من طرف السلطة الفلسطينية، وها هم الآن أمام إرادة حكومية أردنية لفرض التسويات عليهم في الأقصى في هذا الوقت الحالك؛ لقد كبر الحمل وطاشت البوصلة، فمن سنواجه وكيف سنمضي في المواجهة في ظل ظرفٍ صعبٍ كهذا؟
لقد فرض هذا المأزق نفسه على المقدسيين أفراداً وقيادةً دينية، خصوصاً بعد توسيع مجلس الأوقاف الإسلامية في شهر 2-2019 ليضم كل شخصيات "المرجعية الدينية" التي شكلت القيادة المعلنة لحراك المقدسيين في هبة باب الأسباط، لقد كانت هذه القيادة عنوان اتفاق، واليوم باتت تحت وطأة قرارٍ حكومي يفرض عليها ولم تستشر في صناعته، فما العمل؟
واجب شعبي مقدسي:
أمام هذا المستجد الخطير فالمطروح هو منع الاحتلال من فرض أي شروط ومن الحصول على مكاسب في الأقصى نتيجة لهذا الاتفاق، ومنع استمرارها في المكاسب التي حققتها أصلاً.
أولاً: مكاسب المحتل فترة الإغلاق: أغلق المحتل على مدى 69 يوماً 6 من أصل 8 أبواب مفتوحة للمسلمين من أبواب الأقصى، وعينه على استمرار التحكم بعدد المصلين عبر فتح الأبواب وإغلاقها كما يشاء، والحجة لذلك جاهزة: "كورونا". في الوقت عينه سُلِّمت له قائمة واسعة بموظفي الأوقاف ومواقع عملهم وطبيعتها وأوقات مناوبتهم، ما مكن الشرطة أن تصبح هي صاحبة الوجود الأصيل، فهي تدقق في دخول الموظفين وتحدد من له عمل ومن ليس له عمل، بينما هي تدخل وقت تشاء بأي عدد تشاء. أخيراً كان عزل مبنى المجلس الإسلامي الذي فيه مقر الأوقاف بإغلاق باب المجلس لـ 69 يوماً دون اعتراض، لقد كانت هذه تجربة، مناورة قابلة للتكرار إذا ما ارتأى الصهاينة إنهاء دور الأوقاف في لحظة من اللحظات. كل هذا لا بد من التأكد من شطبه تماماً وعدم استمرار أي منه بعد فتح الأقصى، وهذا يحتاج يقظة على مدار وقتٍ طويل.
ثانياً: شروط المحتل لفتح الأقصى: وضع المحتل شروط عدد وفق الإجراءات الحكومية المعلنة في 19-5: في المصليات المسقوفة 50 شخصاً باعتبارها "دور عبادة" بنظره، و500 في الساحة باعتبارها "ساحة عامة" بنظره، مع تسليم هويات الداخلين للأقصى لنقطة الشرطة كآلية إحصاء. هذه الشروط كانت محل تفاوض، ولذلك كتبت عنها الصحافة العبرية، ثم عادت ونشرت في اليوم التالي موافقة مجلس الأمن القومي الصهيوني على رفع شرط العدد في الأماكن المفتوحة. هذه شروط قائمة ومعلنة، ويجري التفاوض عليها، ولجوء إدارة الأوقاف في القدس لنفي وجودها هو مؤشر التزام بحصتها من الاتفاق، فأي جهة تدخل في اتفاق ستسعى لإنجاحه، فهل نحن معنيون بإنجاحه لننساق وراء نفي خشبي لحقائق ساطعة معلنة؟
ثالثاً: محاولة فرض حق يهودي مكافئ: أسست المحكمة العليا الصهيونية خلال رمضان لتساوي حق اليهود والمسلمين في ما تزعم أنه "جبل الهيكل"، وقد ترجمت الشرطة هذا الموقف بتعهدٍ لجماعات الهيكل بفتح الأقصى للمقتحمين الصهاينة في ذات الوقت الذي يفتح فيه للمسلمين. عملاً بذلك تحشد جماعات الهيكل لاقتحام الأقصى غداً الأحد، وتعمّدُ تحديد الأحد يوماً لفتح الأقصى له دور كبير في تسهيل تحقيق هذا التعهد، فالحكومة الصهيونية تقر في سياستها منذ 17 عاماً اعتماد الأيام بين الأحد والخميس لاقتحامات الصهاينة، وكان سيصعب عليهم تحقيق شرط الحق المتساوي لو فتح الأقصى يوم الجمعة.
إن منع تمرير هذه الشروط الصهيونية يتطلب اليقظة، وحشد العدد الكبير غداً قدر الممكن، رغم أنه يوم غير مواتٍ للحشد، لكن حذاري أن نكتفي بالحشد فقط، أو أن يبيعنا أحد صورة انتصار وهمي لنركن للراحة بعدها، فيما الشروط تفرض في الصلوات التالية والأوقات التالية، فهذه باتت معركة النفس الطويل.
واجب شعبي أردني:
إن هذا التحول في الدور الأردني في الأقصى هو الانحراف الأخطر في تاريخه، فهذا الدور لطالما ميّز بين التعامل مع قوة المحتل بحكم الأمر الواقع وبين الاتفاق معه على تفاصيل إدارة الأقصى على المستوى السياسي. إن إدارة الأقصى بكامل شؤونه، وإعماره وصيانته وسدانته وحراسته هي شأنٌ خالص وحصري للأوقاف الإسلامية التابعة للأردن بموجب القانون الدولي، باعتبارها السلطة الشرعية الأخيرة فيه، وبحكم اعتراف ضمني صهيوني بهذا الدور منذ الاحتلال، حتى بات عرفاً في القانون الدولي تعاملت معه جميع الأطراف، ولم تؤسسه اتفاقية وادي عربة كما يشاع، بل إنها قزمته وأساءت تعريفه.
هناك اليوم واجب مباشر في حماية الأقصى على القوى الشعبية الأردنية، وتدخلها الفوري حيوي وضروري لمعركة حماية الأقصى في وجه مشروع تهويده وتقسيمه وصولاً إلى حلم تأسيس الهيكل في مكانه وعلى كامل مساحته، فلا يمكن ترك الحِمل كله على المقدسيين، والتفرج على مهمتهم وهي تصبح أعقد وأصعب مع الاكتفاء بالدعاء لهم أو بدعمهم المحدود؛ لا بد اليوم من تصحيح بادرة الانحراف التاريخي غير المسبوق في الدور الأردني في الأقصى، وعدم الركون إلى كلمة نفي تقال للخروج من المأزق، فهذه ما تزال سابقة يمكن تصحيحها ولم تتحول بعد إلى ممارسة مكرسة.
للدولة الأردنية تجربة مرة بالنفي اللفظي والتطبيق العملي المعاكس، فحين أُقر قانون محكمة أمن الدولة في شهر 2-2014 نفت رئاسة مجلس الأعيان نية تجريم المقاومة الفلسطينية، لكن داعميها كانوا من أوائل من حكموا أحكاماً قاسية بهذا القانون، أما اتفاقية الغاز فحين تسربت أولى أخبارها نفتها رئاسة الوزراء وأكدت أن الحديث يدور عن "غاز فلسطيني" تستخرجه شركة بريطانية، ليجد الأردنيون أنفسهم مكبلين باتفاقية لشراء الغاز من الصهاينة لعشرين عاماً؛ فهل يمكن الركون السهل للنفي من جديد؟
في الخلاصة، هناك انحراف خطير تشكل اتفاقية إغلاق الأقصى بدايته، لا بد من تصحيحه ومنع مفاعيله من التحقق، ومنع بادرة الانزلاق هذه من التحول إلى نهج؛ فدور الأوقاف الأردنية هو أحد عناصر حماية الأقصى، وهو دور أوجدته الوقائع التاريخية، لا يمكن تغييره ولا التخلي عنه، وأصحابه مسؤولون عن الحفاظ على سلامة ممارسته كما أن الأمة العربية والإسلامية مطالبة بدعمه وإلا فنحن ذاهبون إلى المجهول على جميع الصعد.