شبكة قدس الإخبارية

العيسوية: شوكة في حلق التنين

IMG-20190629-WA0032
زياد ابحيص

تمضي العيسوية اليوم في عامها الثالث في عين العاصفة. ليس سهلاً أن تكون على خط النار، وفي قلب الصراع، وتحت الاستهداف المتواصل لماكينة عسكرية وشرطية وأنت تقاتل بأسلحة الحق والصمود والحد الأدنى من الإمكانات، سيسعى عدوك دوماً إلى أن يجرك إلى ما يفوق إمكاناتك، وأن يستنزف طاقتك فتنفذ قواك، فينقض عليك لحسم المعركة بعد "نفاذ الذخيرة"، وكم من معركة مشرفة قاوم فيها الفلسطينيون لكنها حُسمت في النهاية بنفاذ الذخيرة.

يتبع المحتل الصهيوني هذه الاستراتيجية مع العيسوية اليوم، فمنذ بدء عام 2018 وهو يشن حملته عليها بكامل القوة والتركيز، فيحاصرها لشهور ويعزلها عن محيطها، ويقتحمها ليلاً ويعتقل شبابها، ويطلق الغاز بكمياتٍ كثيفة على بيوتها وفي داخل مساجدها فيترك خلفه إصاباتٍ فادحةٍ ومزمنة، ويثقل كاهل أهلها بالغرامات والضرائب، ويخنقهم بإنذارات الهدم وأعمال الهدم المتتالية، وفي كل مرة يبعث بجنده إلى أزقتها يسكنه التعويل الصبياني بأن العيسوية اختنقت وستسلّم أمرها له هذه المرة، لكنها تتجدد من وسط الرماد، تنبعث في وجهها ناراً من جديد، أشد وأعتى من سابقتها، لتصنع النموذج العصي على فهمه وإدراكه، فها هنا أناس يقهرون قانون الخسارة بنفاذ الذخيرة، ها هنا جبل من نار ذخيرته تأبى أن تنفذ.

على كتف تلة تطل على البلدة القديمة من الشمال الشرقي تنظر العيسوية إلى المسجد الأقصى منبسطاً أمامها ككفّ اليد، وتقف ما بين ريف القدس وباديتها، فترمق بعينٍ زيتون قرى القدس إذ يكاد يضيء، وتنظر بالأخرى إلى بريتها في الخان الأحمر إذ تمتلئ خصباً ولبناً، من فوق كل هذا تطل حارسة، فيما يرى فيها المحتل شوكةً في حلقه.

شكلت الجامعة العبرية غرب العيسوية رأس حربة الاستيطان في النصف الشمالي شرقي القدس، ومنها بدأ التمدد إلى الغرب عبر مستوطنة التلة الفرنسية ثم راموت وجاراتها، ونحو الشرق بمستوطنة معاليه أدوميم وجاراتها، وإلى الشمال مع مستوطنة بسغات زئيف والنبي يعقوب. وسط كل هذا وقفت العيسوية عصية على الابتلاع، تمسك بعصب الطريق الواصل بين كتلة أدوميم والجامعة العبرية والتلة الفرنسية وصولاً إلى غربي القدس، وتتولى مع الزعيّم، جارتها الجنوبية، إحباط مخطط توسيع القدس نحو الشرق.

يتمنى الساسة ومخططو تهويد القدس الصهاينة لو يستيقظون في يوم من الأيام ولا يجدون العيسوية، في نظرهم هي موجودة في "المكان الخطأ"، فوصلُ كتلة أدوميم الشرقية بالقدس وإتمامُ مشروع E-1 يتطلبان محوها من الوجود. ليس المطلوب عملياً إخضاعها، ولا دمجها ضمن نسيجٍ مشترك، ليست هذه أفضل الخيارات، بل المطلوب محوها من الوجود، أن تصبح جحيماً يغادره أهله باستمرار، وإن كانت ستُبتلع يوماً ما فلا بد أن تكون "لقمة" صغيرة الحجم، سكانها لا يشكلون أي كتلة وازنة مقابل المستوطنات، لكن تلك العيسوية ترفض بعنادٍ أن تصبح "لقمة"، وتصر على أن تبقى شوكة في الحلق تمنعه من الابتلاع.

بنى المحتل موقعاً للجيش غرب العيسوية ليكمل تطويقها، وبعد بناء كلية لتدريب حرس الحدود –القوة شبه العسكرية للشرطة الإسرائيلية- في حي الشيخ جراح القريب، بات يتعامل مع العيسوية بصفتها "مضمار التدريب" لمنتسبي تلك الكلية، بدورياتهم الراجلة أو المعززة بالآلات يخوضون أولى تجاربهم في الاشتباك، وفيها ينقلون خبرتهم القمعية من عالم النظرية إلى عالم التطبيق.

كل ذلك قاد العيسوية إلى أن تخوض المواجهة إثر المواجهة، منذ عام 1936 ثم حرب 1948 والهدنة التي وضعتها على خط النار في مواجهة الجيش الصهيوني في الجامعة العبرية بين 1948-1967، ثم في الانتفاضتين مروراً بوقوفها مع ابنها وابن الجبهة الديمقراطية سامر العيساوي في إضرابه عن الطعام ثمانية أشهر متواصلة عام 2012، ثم هبة أبو خضير 2014، وانتفاضة السكاكين 2015، ووقوفها في عين العاصفة اليوم ليس إلا امتداداً لذلك النهج المستمر على خط الجغرافيا والتاريخ.

في الأسابيع الماضية حاول الضعف أن يطل برأسه في العيسوية، إذ طُرحت مبادرات للتجاوب مع الشرطة لتخفيض التصعيد، وبلدية الاحتلال والشرطة قدمتا وعوداً معسولة لبناء مدينة صناعية لأهل العيسوية لتشغيلهم، ووقف مخالفات الهدم والغرامات الباهظة العشوائية، ووقف الاقتحامات، مقابل أن يلتزم أهل العيسوية بضبط أبنائهم ومنعهم من مواجهة الشرطة، وكانت العين على إشراك عائلاتها الكبرى لعلها تدخل تلك التسوية ما بين العصا والجزرة.

لكن يا ترى، أليس المحتل هو من فتح هذه الحرب في المقاوم الأول؟! أليس له فيها هدف؟! غراماته واقتحاماته وإغلاقاته كانت عدواناً هو من بادر إليه ولم تكن رد فعل، فإذا رفعها اليوم تحت ضغط نار العيسوية التي تحرقه، فما ضمانتنا بأن لا يعود عليها إن أطفئت تلك النار بأيدي أبنائها لا سمح الله؟! وهل تلك التسوية إلا خداع مؤقت لتسهيل ضرب العيسوية وابتلاعها بعد أن تصبح لقمةً سائغة؟!

في المحصلة خرج شباب القدس بنخوتهم وهبتهم لينقذوا الموقف كعادتهم، ليقولوا للعيسوية وأبناءها لستُم وحكم، من مخيم شعفاط إلى الطور ورأس العامود والبلدة القديمة خرجت النار تنصب على جنود المحتل، وتفك الضغط عن العيسوية التي لم تتأخر فلبّت النداء، وإذ تتخطى العيسوية هذا الفخ المنصوب لها اليوم فإن الواجب الأول هو استمرار الوقوف معها بشتى السبل، كي تبقى شوكةً في حلق تنين الاستيطان والتهويد.