حالة التفكك والشرذمة التي وصلنا إليها نحن الفلسطينيون، لم تعُد تقتصر على الفصائل والأحزاب الفلسطينية التي باتت في غالبيتها تلفُظ أنفاسها الأخيرة وصارت تحتاج إلى بيان نعي.
لقد انتهى زمن الفصائل الشكليّة الصغيرة التي لا معنى لوجودها، وتجاوزنا ذلك وأصبحنا اليوم أمام كتلة شعبية فلسطينية وأزمة كبيرة أصابها المرض والعطب ذاته، مرض المناطقية، والفئوية، والبحث عن الخلاص الذّاتي، وتصوّر وهميّ أن العالم يبدأ وينتهي عندك.. في "مخيمك" و"قريتك" و"مدينتك " و "مجموعتك " و"حزبك"! ويذكرني الأمر بمقولة ساخرة لشاعرنا محمود درويش يقول فيها لحركتي فتح وحماس: أنت وأخوك أقل من واحد!
وإلاّ كيف تُفسر مثلاً هذا المشهد: غزة تحترق تحت القصف ونحن نتفرج؟ ليس الهدف من وراء هذا الكلام، أن نشعر بالذنب بل أن نشعر بالمسؤولية ونداء الواجب الوطني. أن نتصرف كشعب. وليس الهدف "المزاودة" بل البحث عن خلاص جماعي لقضية يجري تصفيتها كل يوم أمام عين العالم.
لقد أدرك العدوّ الصهيوني مُبكرًا أن عزل التجمعات الفلسطينية في جزر ومناطق ومنعهم من التواصل وتكرّيس كيان أوسلو سيؤتي ثمره على المدى البعيد ويضمن له تفكك هذا الشعب الفلسطيني، وإحالته إلى قبائل وحمائل وعشائر وتجمعات، لا رابط بينها ولا جسر، هذا بالضبط ما يجعل كل تجمع فلسطيني يشعر أنه وحيد ومغبون ومخدوع ومظلوم ومعزول، يقول لك: ما حدا سائل في حدا!
واذا تحرّك لإسناد شعبه يظل الفعل خجولاً رمزياً في حدود "التضامن" الشكليّ و رفع العتب.. وهذا كله لا يعود إلى قلة الوفاء والأنانية بل إلى الحالة العّامة التي وصلنا لها كشعب وقضية وأحزاب. جوهر المشكلة في الرأس القيادي الفاسد وشريحة فلسطينية تقرر كل شيء بالنيابة عن الشعب كله.. والمشكلة في غياب المؤسسة الوطنية الجامعة وفي قيم ومجتمع الاستهلاك والخلاص الفردي، هكذا يجري اليوم تفكيك وصهر الهوية الفلسطينية وإعادة إنتاجها، فما معنى أن تكون فلسطينيًا/ة اليوم؟
وانظر مثلاً إلى سلطة رام الله وأحوالها تعرف نصف الجواب.. وانظر إلى قيادات وبنى الأحزاب والفصائل و"النخبة"، لو دعوتها إلى منسف أو صحن كنافة تشارك بإعداد أكبر وبهمة عالية أكثر بكثير من مشاركتها في اعتصام أو مظاهرة ومسيرة تنتصر فيها إلى الحركة الأسيرة أو المقاومة الفلسطينية في غزة أو الحراك الشعبي في مخيمات لبنان. وكل هذا يعززه موقف سلطوي جبان غلّفه البعض باسم "الحرص" وتحت شعار "النأي بالنفس"!
المشهد في غزة يكشف كل الأمراض، ويشبه صورة روما القديمة، كانت تحترق ومحاصرة، فيما الكهنة في الداخل مختلفون يناقشون أصل وجنس الملائكة!
إن أول خطوة في مواجهة أيّ مرض هو مواجهته وفهمه وتشخيصه وليس إنكاره أو سياسة المكابرة التي لا تنفع أحد. وعلينا أن نواجه أمراضنا بجرأة وشجاعة إذا أردنا الخروج من حالة التيه ومن حدود القبيلة إلى معنى واضح لجوهر القضية ومعنى التصرف كشعب.. وبقدر ما هو ضروري تحميل العالم مسؤوليته يجب ألا نغفل عن دور العامل الذاتي الفلسطيني وأمراضه وتحدّياته الكثيرة.. كل حركات التحرر في العالم عاشت وخاضت تجارب مشابهة لكنها لم تخرج منها إلا بعد أن يستعيد الشعب قراره الوطني ويصرخ في الميدان.
