أنقل هذا الكلام من موقع الشيخ أحمد الريسوني؛ رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، حتى لا يُقال إنني لم أدقق في الأمر. ونشره في الموقع يؤكد مضمونه.
يقول الخبر: "دعا الشيخ المغربي المسلمين في كافة أنحاء العالم لزيارة القدس ودعم المقدسيين والمرابطين ماديا ومعنويا، مشددا على أنه "ليس كل من زار القدس مطبّعا أو داعيا للتطبيع"، وموضحا أن "الغرض والمقصد من الزيارة كفيل بمعرفة الموقف الشرعي والسياسي منها".
وأضاف: "أما من تستدعيه المخابرات وقنوات الاحتلال، فحتما نرفضه ونحاربه ونعتبرها خيانة وطعنة من الخلف".
في الخبر أيضا: "كما أكد (الريسوني) دعمه لموقف الفلسطينيين في الداخل (الأراضي المحتلة عام 48) للانتخابات التي من المقرر إجراؤها"، مؤكدا: "لا أفضّل شخصيا سياسة المقعد الفارغ، ويمكن استعمال المشاركة في الانتخابات كورقة للضغط على الاحتلال".
ما ينبغي أن يُقال ابتداءً هو أننا نكن كل الاحترام للشيخ الفاضل وعلمه ومكانته، ولكن من قال إن القضية هنا "شرعية" صرفة حتى يفتي فيها؟!
هذه قضية سياسية بامتياز، والجانب الشرعي يستند للمصالح والمفاسد التي يقدّرها أهل العلم بها، وكان أولى به أن يعود إليهم، ومن بينهم الشيخ رائد صلاح مثلا، والشيخ عكرمة صبري، وكذلك قوى المقاومة، وفي مقدمتها حركة "حماس" والجهاد.
ما الذي تغيّر في وضع الاحتلال والموقف منه حتى يتغيّر الرأي في الموقف من الزيارة، وجعلها تطبيعا أحيانا، وغير ذلك أحيانا أخرى، ومن سيفرز الناس وفق نواياهم؟!
نفتح قوسا لنشير إلى مصيبة أخرى في كلام الشيخ، وهي تستحق وقفة أخرى. أعني تلك المتعلقة بدخول انتخابات "الكنيست" الصهيوني.
عودة لقضية الزيارة التي أجمعت على رفضها كل القوى الحيّة في الأمة طوال عقود، بما فيها "الاتحاد العالمي نفسه، فضلا عن الأزهر والفعاليات الإسلامية والحزبية والنقابية الأخرى من مختلف الألوان، فماذا تغيّر سوى موقف حركة فتح في ظل محمود عباس وسلطته، ومواقف بعض الأنظمة المتراجعة أمام العدو، وبعضها يفعل ذلك على استحياء، حتى الآن؟!!
قلنا مرارا ما أكد عليه وكيل الأزهر (الشيخ عباس شومان) مطلع العام الماضي، ممثلا في أن هذه ليست فتوى تقليدية، وإنما هي تقدير قائم على المصالح والمفاسد، وهنا لا يجد الداعون للفكرة غير قضية دعم صمود المقدسيين (هل شاهدتم ماذا فعلوا بالمطبّع إياه قبل أسابيع؟!)، وهو ما نردّ عليه دائما، بأنه لو كان تقدير الغزاة أن الأمر يدعم المقدسيين بالفعل، لمنعوا الزيارة بكل تأكيد، وما موقفهم المتكرر بمنع دخول المتضامنين الأوروبيين، ونشطاء حركة "BDS"، وهم لا يحتاجون إلى تأشيرات أصلا سوى تأكيد على ذلك (قصة رشيدة طليب وإلهان عمر الأخيرة دليل ساطع جديد).
ولا يتوقف الأمر على منع المتضامنين الأوروبيين، بل يختارون من طالبي الزيارة عبر سفاراتهم من يروق لهم، ومن يشكّون فيه أدنى شك لا يمنحونه التأشيرة، بخاصة من فئة الشباب.
أما دعم الصمود فلا ينبغي أن يمر من خلال مسارات تطبع العلاقة مع المحتل، ولا خلاف على أن سبل دعم الصمود كثيرة؛ لا حاجة لأن يكون من بينها السفر للسياحة في القدس وتل أبيب وحيفا ويافا. وحتى لو كان "السياح" سيمضون بعض الوقت في الضفة الغربية، فإن علاقة جماهير الأمة مع فلسطين بوضعها الحالي ليست علاقة سياحة، ما ينسحب على العلاقة مع الشعب أيضا.
لو كانت السلطة هي التي تمنح حق العبور للأراضي المحتلة وليست سلطات الاحتلال لما كانت هناك أية مشكلة، بدليل أن أحدا لم يقل إن السفر إلى قطاع غزة في الوقت الراهن بعد سيطرة المصريين على المعبر نوع من التطبيع، لكن تأشيرة السفر في الحالة التي يدعو إليها القوم إياهم ينبغي أن تصدر من سلطات الاحتلال.
لا ننسى هنا حقيقة أن الدعوة إلى زيارة العرب للأراضي المحتلة هي في جوهرها دعوة لدعم الاقتصاد الإسرائيلي، أكثر من دعم الاقتصاد الفلسطيني (وزارة السياحة الإسرائيلية ستشكر أصحاب دعوات الزيارة)، لأن الأول هو من سيستفيد منها في واقع الحال تبعا لإمكاناته ولاتساع الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها (هو يسيطر عمليا على كل فلسطين باستثناء قطاع غزة من الداخل)، فضلا عن جمالياتها (وجود البحر والخدمات السياحية المثيرة فيها).
ومن يتوقع أن السائح العربي سيزور القدس ورام الله ويترك حيفا ويافا وعكا وتل أبيب واهمْ. بدليل أن الرحلات السياحية التي يعلن عنها لزيارة القدس لا تشمل سوى وقت قصير في المدينة تليه جولات أخرى في المدن المحتلة عام 48.
ليس ذلك وحده هو ما يدفعنا لرفض هذه الدعوة، وإن حضر في سياق تقييم المصالح والمفاسد، فما يعنينا أكثر هو تطبيع العلاقة مع العدو، وتجاهل العلاقة العدائية معه كمحتل لهذه الأرض، وجعل أشواق التحرير هي المسيطرة على العقل الجمعي للأمة، ومعها دعم مقاومته.
لقد قاتل الصهاينة عقودا، وضغطوا في كل اتجاه من أجل تحقيق هذا الهدف الذي يدعمه اليوم الشيخ الريسوني، وآخرون، عبر منطق لا يوازن المسألة من كل نواحيها.
لا تسأل بعد ذلك عن الاختراقات الأمنية التي ستنشأ من جراء هذه السياحة، ونعلم أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتمتع بقدرات رهيبة على الاختراق وتجنيد العملاء، وبذلك نفتح الباب على مصراعيه لاختراق العالم العربي برمته، وبالطبع بعد أن تحققت اختراقات رهيبة في المجتمع الفلسطيني طوال عقود.
على دعاة الزيارة أن يثبتوا للأمة أن مصالح السياحة العربية والإسلامية للقدس أكثر من مفاسدها، بعيدا عن تفنيد النصوص الدينية التي لم يستند إليها أحد أصلا، لأن القضية في الأصل سياسية محدثة، ولا صلة لها بما كان في قديم الزمان قبل فتح القدس وإعادة احتلالها، وقبل أن تظهر الدولة الحديثة بصيغتها الحالية وما تنطوي عليه من تأشيرات وجوازات سفر، إلى جانب طبيعة الاحتلال الإسرائيلي الفريدة ومطامعه في المدينة ومقدساتها، مع أن الاستدلال بزيارة النبي عليه الصلاة والسلام للكعبة وهي تحت سلطة قريش ساقط أيضا، لأن مكة لم تكن محتلة، ومن كانوا فيها هم أهلها، وإن كانوا مشركين.
ومع أن نظرية أهل مكة أدرى بشعابها لم تعد مقنعة في زمن "غوغل" وثورة المعلومات، فضلا عن خلافات أهل مكة حول القضايا، فيكفي أن يكون أمثال الشيخ رائد صلاح (حارس الأقصى الأمين)، والشيخ عكرمة صبري، وهما من أهم رموز الدفاع عن القدس والمقدسات، ضد الزيارة، ويرونها نوعا من التطبيع ومفاسدها أكبر؛ حتى نؤمِّن على رأيهما، فضلا عن سائر الفصائل المعتبرة عدا حركة فتح، تبعا لموقف قيادتها الجديدة (لم تكن كذلك سابقا).
ولا داعي لطرح السؤال الذي نطرحه دائما ويهرب منه أنصار التطبيع ممثلا في سبب تسهيل الاحتلال لزيارات العرب والمسلمين للقدس مقابل منع أمثال الشيخ رائد والشيخ عكرمة وفلسطينيي الضفة الغربية من دخول المدينة؟!!
مرة أخرى نقول إن الرأي السياسي شيء، والرأي الفقهي التقليدي شيء آخر، والأفضل لعلمائنا أن لا يتورطوا في الخلط، وأن يجدوا لهم من يشير عليهم في الرأي السياسي، لا سيما أن أكثر شيء يودي بسمعة الدعاة والمشايخ هو الرأي السياسي، أو الموقف بتعبير أدق، والشيخ الريسوني اليوم لم يعد كما كان من قبل، بل هو ممثل لحشد كبير من العلماء الذين ينضوون تحت لواء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
بقيت ملاحظات تبدو ضرورية لإعادة تأكيد الفكرة.
ألا يتأمل دعاة الزيارة الجدد طبيعة الأنظمة والشخصيات الدينية والسياسية التي كسرت موجة المقاطعة، بما فيها السلطة الخادمة للاحتلال، والمتعاونة مع العدو ضد المقاومة. حين يتأمّلون ذلك، ربما يدركون في أي مربع يصطفون، بخاصة بعد المواقف الأخيرة التي اتضحت خلال العام الحالي والماضي، وعملية الضخّ الإعلامي الموجّه في هذا الإطار.
عليهم أيضا أن يتأملوا مسيرة التعاطي العربي الرسمي مع الاحتلال، منذ "لاءات" الخرطوم وحتى المواقف الأخيرة، ويتأملوا كيف تتم عملية الاستدراج. إن دعوة كهذه تعبّر في جوهرها عن جهل بطبيعة هذا الاحتلال وذكاء من يديرون سياسته، مقابل بؤس الوضع العربي الرسمي (أغرب شيء هو الاعتقاد بجهل الاحتلال، عبر القول بإغراق القدس بالسياح المسلمين، كأن أحدا سيمنعه من وقف منحهم التأشيرات أو السماح لهم بالدخول لو أحسّ بأي خطر منهم؛ هو الذي يتجاهل قرارات دولية كبرى دون وجل).
في نهاية المطاف، فإن أحدا لن يمنع أحدا يقرر الزيارة، ويُتاح له ذلك، لكن تحوّل البعض إلى عون للاحتلال، وأبواق لوزارة السياحة الإسرائيلية معيب. "وكل أمتي معافى إلا المجاهرين"، كما في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أتمنى أن يتم تأمّل الكلام أعلاه، كي يعرف كل أحد في أي مربع يقف، وبأي قضية يبشّر، مع قناعتنا بأن هناك من سيواصل الجدل، لا لشيء إلا لأنه يريد تبرير ما يفعل أو يريد أن يفعل!! فالهوى يحدد الموقف، فيما يتولى العقل توفير المبررات.