صباح يوم 27/7/2017 حاول المحتل أن يسجل أي تقدمٍ وسط هزيمته، حاول أن لا يكون تراجعه تاماً وشاملاً، فأغلق باب حطة. صباح الخميس 27/7 تجمهر المقدسيون أمام باب حطة، "النصر يمر من هنا"... سرَت تلك الروح بينهم في اتفاق عفوي عام جمعهم أمام ذلك الباب، كانوا موقنين بأنهم قادرون على فتحه، وأنه إن لم يُفتح فليكن ما يكون. أمام تلك الإرادة الغامرة لم يكن للمحتل إلا أن يتراجع تراجعاً تامّاً وكاملاً.
في باب الأسباط سجل المحتل هزيمته الأولى الملموسة باليد، انسحب وتراجع في حضور الجماهير وسط التصفيق والتكبير، بل وتحت استهداف المركبات التي جاءت لسحب الخردة في تلك الليلة. في باب الأسباط كُشفت معادلة جديدة مهمة: وهو أن الصدام مع الجماهير ليست فيه تسويات، ليست فيه أنصاف حلول، إذ ليس فيه غرف مغلقة ولا وسطاء يمنحون التسويات طلباً لحماية رؤوسهم، ولا قيادات بعينها يمكن تشديد الضغط عليها لدفعها للتراجع.
سِمتان لطالما تناولتهما أقلام الكتاب والمثقفين بالعويل: تردي الوضع العربي، وغياب التنظيم الذي يقود الفعل الجماهيري. وهنا يبرز سؤال من وسط التجربة الميدانية لنصر باب الأسباط: لو كان النظام الرسمي العربي متعافياً وتمكن من عقد اجتماع مبكر لوزراء الخارجية ثم ذهب لمجلس الأمن بموقف موحد، كيف كانت ستنتهي هبة باب الأسباط؟ لقد مكّننا هذا الغياب والعجز الرسمي العربي من نتيجتين مهمتين: الأولى أنه لم يستطع الوصول لحل، فترك الكيان الصهيوني مكشوفاً في الشارع أمام إرادة الجماهير فكانت النتيجة الحتمية التراجع أمامها، لقد كان تردي الوضع العربي في حالة باب الأسباط هبةً عزيزة لأنه سمح بكشف مدى الضعف والهشاشة الصهيونية. أما الميزة الثانية فأنه منع الوسطاء من تمرير التنازلات المجانية علينا، إذ لطالما نجح الكيان الصهيوني في تقليل خسائره عبر التفاوض حين يكون مضطراً للتنازل، لكنها يومها لم يجد من يجلس معهم في غرفة مغلقة، لم يجد من يسمح له بتحجيم خسارته، فاضطر لتحقيقها كاملة، فماذا كان سيحصل يا ترى لو أن "وفداً مفاوضاً" فلسطينياً من أي نوع وجد ليتفاوض تحت مظلة قيادة محددة، ماذا كنا سنجني حينها؟
قد يكون للتردي الرسمي العربي انعكاسات سيئة في مواطن أخرى، وقد يؤثر غياب التنظيم على إمكانية العمل العسكري المنظم، لكن هذا ليس الوجه الوحيد لغيابهما، فهبة باب الأسباط شاهد حي على أن هناك فرصاً في ذلك الغياب إذا ما حضر الفعل الجماهيري؛ لكن العقل أسير ما يألف، ولعلنا ما نزال نصر على أن تعود الأمور كما نعرفها ونرفض قراءة فرصة تاريخية كبيرة كشفتها معادلة نصر باب الأسباط، فالنصر تطلب بالضبط: عمليتين فرديتين لنمور مقاتلين لا يقف وراءهم تنظيم إجمالي، واعتصام لمدة 14 يوماً بإرادة وتصميم، وتفاعل شعبي خارجي كان الأردن وتركيا أبرز مراكزه.
هل كانت تلك معادلة مؤقتة؟ البعض بادر لقول ذلك، فهي حصيلة ظروف محددة من المستحيل تكرارها، لكن ما هي إلا تسعة عشر شهراً حتى تضافرت ظروف جديدة لتصنع نصراً جديداً في هبة باب الرحمة بفتح المصلى في 22/2/2019، وهو النصر الذي لم يحظَ حتى اليوم اليوم بنصيبه من التحليل والدراسة لاستلهام الدروس والعبر، ولعلنا نتوقف عند أبرز المعادلات التي أفرزها:
أولاً: شكل نصر باب الرحمة تقدماً جديداً على طريق معادلة القوة الجماهيرية: ففي باب الأسباط استعمل المحتل قنابل الغاز والدخان والرصاص المطاطي بل والحي أحياناً، لكنه في يوم الجمعة 22/2/2019 سلم بهزيمته مسبقاً، فلم يطلق رساسة واحدة ولا قنبلة غازٍ أو دخان، بل أخلى مقر شرطته المستحدث فوق باب الرحمة. نحن أمام تحولٍ تاريخي يتجسد أمامنا في هذا الصراع، فلأول مرة منذ احتلال بريطانيا لفلسطين تسلم القوة المحتلة بعجزها أمام الجماهير، فتقرر مسبقاً أن لا تخوض المعركة معها. ولنتذكر جيداً أن هذه الشرطة ذاتها هي التي قتلت 21 شهيداً وأصابت نحو 150 في مجزرة الأقصى 1990، وهي التي أوقعت أكثر من 50 شهيداً و300 جريح في هبة النفق حين افتتحت شبكة أنفاق الحائط الغربي المتاخمة لسور المسجد الأقصى، وقتلت 5 شهداء وجرحت العشرات يوم اقتحام شارون للأقصى عام 2000.
كشف نصر باب الرحمة أننا أمام محتلٍّ تمكنت المقاومة من كيِّ وعيه عبر انتفاضات وهبات متتالية، باتت لديه حسابات لا تجعل يده ترتجف فقط في الضغط على الزناد، بل تُحجِم عن ضغطه من الأساس؛ خصوصاً في داخل المسجد الأقصى.
ثانياً: كشفت هبة باب الرحمة عن أشكال جديدة من القوة يختزنها المجتمع في مواجهة المحتل؛ إذ عوّلت الشرطة على "طول نفسها" وبقيت تعتقل الحراس الذين يفتحون مصلى باب الرحمة في كل يوم لتجعل يدها هي العليا. نزل إلى الميدان أشبال من القدس ومواطنون فتحوا الباب ولم يسمحوا بالاستفراد بحراس المسجد الأقصى، لتنضم عائلات القدس وتعلن استعدادها لتقاسم مسؤولية فتح الباب، فبدأت عائلة نجيب ثم تسلمت عائلة العجلوني الراية. ومع أول انتقالٍ بين العائلات أدرك المحتل أنه مهزوم، فأوقف اعتقاله لمن يفتحون الباب بعد الأسبوع الأول من شهر 4/2019. عبّرت مبادرة عائلات القدس عن ذكاء فطري يختزنه هذا المجتمع إذ يقرأ نقطة الضعف والخوف الصهيونية بمنتهى الدقة، ويضع المحتل أمامها –رغم غياب التنظيم والقيادة الموحدة- فيضطر المحتل للتراجع. الاستمرار كان يعني أن تضع الشرطة نفسها في مواجهة عائلات القدس وحمائلها، وأفرادها يتواجدون بينهم وفي حاراتهم، فأين المفر؟
ثالثاً: إن كان من خاصرة ضعيفة كشفتها هبة باب الرحمة فهو إمكانية جرّ الأوقاف والدولة الأردنية للغرف المغلقة، ومحاولة فرض التسويات عليها باعتبارها جزءاً من النظام الرسمي العربي المفكك والمعتاد على دور إطفاء الحرائق في الوضع الفلسطيني، وكان التحدي هنا وما زال هو منع انجرار الأوقاف لتسويات مُذلة مع الصهاينة لكن دون الدخول في حالة عداءٍ معها، وهنا أظهرت الجماهير من جديد حكمة وتقديراً للمصلحة أكبر مما أبداه النظام الرسمي العربي، فكانت هي "أم الصبي" الذي يمنعه من الانجرار للفخ الصهيوني مع تجنب العداء معه.
وإذا ما أضفنا إلى الهبتين تجربة جماهيرية عملاقة أخرى تحققت على الضفة الفلسطينية الأخرى والمتمثلة بمسيرات العودة التي قلبت الطاولة وأفشلت التعويل على انفجار الجماهير في وجه المقاومة، وجعلت انفجارها سلاحاً جديداً في مواجهة المحتل، مكّن المقاومة المسلحة من كسر قاعدة "الهدوء الشامل أو الحرب الشاملة" إلى قاعدة جولات التصعيد المحسوبة، فإن معادلة القوة الجماهيرية تكون قد أثبتت نفسها بما لا يدع مجالاً للشك والمراوغة، ويبقى السؤال من هنا: كيف يمكن المضي بهذه المعادلة قدماً نحو انتصاراتٍ جديدة، وربما نحو التحرير...
ولعلنا في يوم من الأيام حين نؤرخ للتحرير نكتشف أن يوم 27/7/2017 كان اليوم المشهود الذي كشف لنا معادلته وسمح لنا بتحقيقه.