هدم جماعي بالجملة، ربما يكون الأكبر في القدس منذ هدم حارة المغاربة عام 1967، سبعون منزلاً هدمها الاحتلال في وادي الحمص صباح الإثنين 22-7، كان المأهول منها يؤي 24 مقدسياً، أما ما هو قيد البناء منها فقد حرم 350 مقدسياً علقوا آمالهم على تلك الجدران لتؤيهم وتحفظ لهم فرصة البقاء على أرض مدينتهم.
ثلاثة مقدمات يمكن أن توضح لماذا وضع المحتل وادي الحمّص ضمن أولوياته، وحرص على تنفيذ الهدم بهذه السرعة والاندفاع:
الأولى: حرص المحتل خلال رسمه لمسار الجدار على ضمّ مساحات من الضفة الغربية لم تكن مصنفة ضمن حدود القدس البلدية الاستعمارية، على أمل إدخال مساحات فارغة يمكن التعويل عليها لاحقاً للتوسع الاستيطاني أو للبنى التحتية التي تخدمه، ومن هنا جاء إدخال مناطق وادي الحمص والمنطار ودير العمود إلى الشرق من بلدة صور باهر، رغم كون هذه المناطق جزءاً من اتفاق أوسلو، وبعضها مصنف كمناطق (أ) خاضعة للسيطرة الإدارية والأمنية الفلسطينية، أو (ب) خاضعة للسيطرة الإدارية فقط.
بعد هذا الضم قرأ المقدسيون فيه فسحة في عيشهم المضيّق، فالبناء فيه لا يستلزم أكثر من الحصول على موافقة من وزارة الحكم المحلي الفلسطينية باعتبار هذه الأراضي تتبع لها، وإن كانت فعلياً تقع في جهة القدس من الجدار، فسارعوا للبناء فيها دون تراخيص صهيونية. ليس واضحاً هل تأخرت بلدية الاحتلال في التعامل مع هذه الأرض التي قضمتها لأسباب بيروقراطية أم بشكلٍ متعمد لتعظيم خسارة المقدسيين الذيت سيسارعون للبناء فيها.
الثانية: الدعم الأمريكي المتمثل بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وهو ما سارع لترجمته منذ اللحظة الأولى إلى معركة لتوسيع حدود القدس، لتكون القدس التي اعترف بها ترامب هي "القدس الكبرى" بمساحة 300 كم2 تقريباً، وليست "القدس البلدية" بمساحتها الحالية (126 كم2)، ولهذا تحديداً فتح معركة هدم الخان الأحمر لضمّ كتلة أدوميم بأكملها –واضطر للتراجع تحت ضغط شعبي ودولي-، واليوم يفتح جبهة وادي الحمص باعتبارها أصغر وأكثر رخاوة، فهي ليست بنفس الحجم، ولا تحظى بالاهتمام الدولي ذاته، كما أن معظم البيوت التي ستهدم ليست مأهولة بالسكان. من المهم جداً أن نتنبه هنا أن حسابات الثمن المحتمل كانت تحكم المحتل في اختياره لفريسته.
الثالثة: توظيف هذا الهدم "السهل" إن جازت التسمية في حرب نفسية ضد الأحياء الأكبر والأعقد والأقرب إلى قلب القدس التاريخي، في حي البستان وبطن الهوى في سلوان، وإسكان الشيخ جراح والشياح وحي الأشقرية في بيت حنينا، ولأهل الخان الأحمر كذلك. يريد المحتل في استعراض القوة هذا أن يوهم أهل تلك الأحياء أن معركتهم خاسرة، وأن آلة الهدم قادمة ولن يقف أمامها شيء، لعله يدفعهم للتخلي عن الحقيقة الأهم وهي أن صمودهم واعتصامهم وحراكهم الجماهيري منع الهدم لسنوات تصل إلى تسع أو عشر، وأن صمودهم وحراكهم ووقوفهم يداً واحدة هو سلاحهم الأمضى.
يضعنا الهدم في صور باهر أمام السؤال القديم المتجدد، الذي يختار البعض أن "يتوهوا" أمامه مع سبق الإصرار والرغبة: هل نحن شعب تحت احتلال يريد أن يزيح المحتل عن صدره؛ أم نحن "أقلية عربية" في "إسرائيل" نريد من سلطاتها أن تنصفنا وتهتم بنا؛ فإن فعلت باتت سلطة شرعية. اليوم تقف صور باهر وأهلها وهم 24,000 أمام النتيجة المنطقية لهذا الارتباك: أن المحتل يستخدمه منصة ليضرب الجميع.
كيف يتفق أن تفتح "مركزاً جماهيرياً" لبلدية الاحتلال وتتعامل مع "خدماته" وتتقبله جزءاً عضوياً من حياتك وأن تخرج لتحمي حقك حين تأتي هذه البلدية ذاتها لتمحوَك من الوجود؟ كيف يتفق أن تدرّس المنهاج الإسرائيلي، وتتلقى "المعونات" المدرسية، وتعتمد على هذه البلدية في كل ما يتعلق بمستقبل أبنائك ثم تمنع يدها عنك إذا ما جاءت لتمحوك أنت وأبناءك من الوجود؟ إن ما نفعله هنا هو استجابة للتخدير تسمح بالإجهاز علينا أسرع وبثمنٍ أقل. لا مفر اليوم من الصدق مع أنفسنا قبل أن نوزع المسؤوليات –رغم أحقية ذلك.
ما هو الحل؟
الحل سهل وواضح لكنه يشق على النفوس، الحل في معادلة الثمن. إذا لم يكن للهدم من ثمن، فسيصول البلدوزر ووحدة المتفجرات ويجولان في أحياء القدس، وإذا كان هناك ثمن فسيتعلم صاحب القرار قسراً أن يضبط زر التفجير.
ثلاثة اتجاهات مركزية من التحرك يمكنها أن توازن المعادلة، وأن تمنع تكرار ما حصل:
الأول: أن يخرج من صور باهر حراك جماهيري يوم الجمعة القادم يجبي ثمناً لما حصل، يعتصم ويقف مع أهل وادي الحمص، ولا يتركهم وحيدين لمصيرهم، وأن يكون مثله في كل أحياء القدس، خصوصاً تلك المهددة بالتهجير. صور باهر من أكثر ضواحي القدس اكتظاظاً، وستبقى المعادلة حتى لو لم يحب الكثيرون سماعها: لو خرج 10% منهم أمام الجرافات بإرادة تصدٍّ حقيقية لما هُدم حجر عن حجر. المكتوب هنا ليس خطأ ولا خطيئة، لكنه بلا شك صعب على النفوس، صعب الاعتراف به، والأصعب تطبيقه... ولعل هذا ما يحوجنا لكل هذه الكلمات والحروف، لكن بإمكانك أن تطمئن عزيزي القارئ، مهما راوغت وبحثت فأنت تعلم في قرارة نفسك أنه الحل الوحيد.
الثاني: كما وجَدَت السلطة الفلسطينية في نفسها الأهلية لأن تصدر تراخيص بناء عن وزارة الحكم المحلي باعتبار هذه مناطق مصنفة (أ) و(ب)، فلا بد أن تجد في نفسها الأهلية لتتحمل مسؤولية الوثائق التي تصدرها بترويسها وختمها: تعويض جميع متضرري وادي الحمص هو مسؤوليتها، تعويضاً كاملاً يسمح لهم بإيجاد حلولٍ للبقاء في مدينتهم بالشكل الذي يستطيعون إيجاده. والأهم أن تأخذ قرارات سياسية ذات معنى أمام عملية تهجير جماعي تطال 400 فلسطيني تحت سمعها وبصرها و"سلطتها". ما لم يحصل ذلك فكل الكلام عن رفض صفقة القرن ورفض قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني هو هباء لا قيمة له، ولن نفاجأ حينها على أي حال.
الثالث: لقد شق المقدسيون تجربة خيام الصمود بأيديهم وعزائمهم، في حي الشيخ جراح والبستان والخان الأحمر، وهو منهج لا بد أن يتكرر ويتكامل، ولقد أخفقنا جميعاً في الوقوف معه كما يجب حتى الآن، وكان المقدسيون -الذين اختاروا هذا الخيار- على الدوام أطول نفساً من المؤسسات والحركات والفصائل التي تدعمهم أو يفترض فيها ذلك. لقد خاض أهالي وادي الحمص لوحدهم تجربة صمودٍ لم تحظ باهتمام ولا تغطية إعلامية ولا دعم ميداني حقيقي، والواجب أن يتبدل ذلك وأن ندرك في داخل القدس وخارجها أن العمل الجماهيري هو خيارنا الأول الذي يستحق كل الدعم، إن كنا نريد حماية القدس بحق.