عشر جولات من التصعيد العسكري الإسرائيلي مرّت على غزة، منذ قرّرت أن تهبّ لفك الحصار، تفاوتت في عنفها وضراوتها، وترافقت هذه الجولات العشر مع حراك شعبي سلمي شاركت فيه القوى والفعاليات المختلفة، تمثل في مسيرات العودة الأسبوعية التي ما لبثت أن تنوعت فعالياتها، لتصبح يومية عبر ما عُرف بالإزعاج الليلي لقاطني المستوطنات اليهودية، وفي البالونات الحارقة والطائرات الورقية. طورت غزة أساليب مقاومتها، ومزجت بين الفعل العسكري المقاوم والمقاومة الشعبية السلمية، وأنشأت غرفة عمليات مشتركة ضمت جميع الفصائل المقاومة، في وقت تشكلت الهيئة العليا لقادة مسيرات العودة، وكان الهدف واحدًا؛ تخفيف الحصار عن القطاع، بمنح تسهيلات في مجالات الحياة المختلفة، تكفل لأبنائه وبناته حدًا أدنى من حياة عادية، تمهيدًا لإلغاء هذا الحصار تمامًا.
لتحقيق ذلك، كان لا بد من كسر معادلة "هدوء مقابل هدوء" السائدة منذ اجتياح عام 2014، والتي تنصّل فيها العدو والوسيط والصديق من تفاهمات وقف إطلاق النار، وكرّست تواطؤًا على استمرار الحصار، مع إطلاق يد العدو في القصف والتدمير والاغتيال، وإغلاقٍ شبه كامل للمعابر البرية التي تصل قطاع غزة بمصر وفلسطين المحتلة، وتقنين الوقود، ومنع دخول المواد الإنشائية والاحتياجات الإنسانية الأساسية. واستمر هذا الحصار المطبق أكثر من أربعة أعوام، وسط صمت فلسطيني وعربي ودولي. وضاعفت من تبعاته، في الفترة الأخيرة، عقوبات السلطة الفلسطينية التي اتُخذت بذريعة تمكين السلطة وإنهاء الانقسام.
قرارات جريئة اتُخذت عبر فرض معادلات جديدة، مثل "تسهيلات مقابل هدوء"، و"القصف بالقصف"، وكان ذلك أشبه بالسير على حافّة الهاوية، لكنها كانت تستند إلى فهم دقيق لميزان القوى الراهن، ونقاط القوة والضعف للمقاومة وللعدو، وللظرفين، المحلي والإقليمي. وقدم فيها أبناء القطاع، خلال الاشتباكات أو عبر المسيرات، مئات الشهداء وآلاف الجرحى.
أمام هذه التضحيات انهارت جميع الادعاءات السابقة التي كانت تسوغ إبقاء الحصار، فُتح معبر رفح أمام حركة الأفراد، بعد أن كان مغلقًا تمامًا بذرائع شتى، منها ضرورة وجود المراقبين الأوروبيين، أو حرس الرئيس، وتمكّن آلاف الغزيين من المغادرة للدراسة والعلاج والعمل، بعد أن سقطت هذه المبرّرات الوهمية التي كان غرضها الأوحد إيقاع عقوبات بالقطاع ومقاومته ومحاولة تدجينها. كذلك كان حال البضائع والوقود والصيد البحري الذي توسّعت مساحته من ستة أميال إلى 15 ميلًا بحريًا.
خلال الجولات العشر، وما بين تصعيد حدة مسيرات العودة وفعالياتها الليلية، كان ثمة مد وجزر، وشد وجذب، تارة بالاشتباكات المسلحة والقصف الصاروخي والغارات الجوية، وأخرى بتصعيد المسيرات والإزعاج الليلي، أو بالدبلوماسية وممارسة الضغوط وطرح المشاريع الهادفة إلى تدجين المقاومة وسحب سلاحها.
قرأت المقاومة، في الجولة السابقة، الواقع الصهيوني جيدًا قبيل وقت قليل من إجراء الانتخابات الإسرائيلية، واستغلت خرقًا منه للتفاهمات السابقة فبادرت بالتصعيد. لم يكن رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، قادرًا على الدخول في مواجهة أوسع قبل أسبوع من الانتخابات، قد تنعكس نتائجها عليه، وتكون فيه إسرائيل تحت القصف، وهو الذي ظفر بهديةٍ من الرئيس الأميركي، ترامب، باعترافه بضم الجولان، وأخرى من الرئيس الروسي، بوتين، بتسليمه رفات الجندي الصهيوني المفقود منذ معركة السلطان يعقوب عام 1982، والمدفون في سورية. وبهذا، حظيت غزة بما عُرف باتفاق "تسهيلات مقابل هدوء"، وكان هذا أفضل ما حصلت عليه منذ بدء الجولات العشر ومسيرات العودة.
بعد الانتخابات الإسرائيلية، واجه نتنياهو صعوبات في تشكيل حكومته، وتركزت الانتقادات على ما وصفه خصومه بالعجز عن إعادة الهدوء إلى غزة، و"الاستسلام أمام حماس". وامتد هذا إلى من يُفترض بهم أن يكونوا حلفاءه في الحكومة المرتقبة، ولذلك حاول نتنياهو أن يثبت لهؤلاء وأولئك قدرته على قلب الموازين في المواجهة مع المقاومة؛ تنصل من الاتفاق السابق، وبادر إلى التصعيد، وربما كان متفائلًا أن في وسعه أن يشكل ائتلافًا حكوميًا تحت النار، فيتخلص من الضغوط التي تُمارس عليه، وإذا كان الائتلاف واسعًا بذريعة الحرب، فسيتمكّن أيضًا من صيانة مستقبله الشخصي، والحيلولة دون محاكمته بتهم الفساد، عبر سنّ قانون الحصانة.
استخدم الجيش الصهيوني تكتيكًا جديدًا، إذ تعمد قصف المنازل السكنية التي يقطن في إحدى شققها، أو بالقرب منها، مناضل في المقاومة، فقصف عشرات المنازل في محاولة لإيجاد هوةٍ بين المواطنين والمقاومين. وكثف من غاراته الجوية وقصفه المدفعي والبحري، وتباهى باغتيال صاحب محل صرافة، بدعوى أنه قناة نقل الأموال إلى حركة الجهاد الإسلامي، واستدعى وحدات مدرعة ولواء غولاني إلى الجبهة، مهددًا بتوسيع رقعة القتال.
لم تتطابق حسابات حقل نتنياهو مع حسابات بيدر المقاومة التي فاجأته، وفاجأت غيره، بأن صواريخها ليست عبثية. أطلقت المقاومة زهاء سبعمائة صاروخ خلال يومين، على الرغم من السيطرة الجوية المطلقة على سماء القطاع، طاولت الجنوب الفلسطيني ومدنه الرئيسة، مثل بئر السبع وأسدود وعسقلان، ووصل بعضها إلى الضواحي الجنوبية لتل أبيب التي فتحت أبواب ملاجئها العامة، تحسبًا من وصول الصواريخ إليها. وفي هذه المرة، كانت الإصابات أكثر دقة، وكثافة الرشقات الصاروخية ملحوظة، وانفجاراتها أكبر تأثيرًا، وهو تطوّر ملحوظ باعتراف العدو الذي أقر بمقتل أربعة مستوطنين، وإصابة 140، وشكل ذلك أعلى نسبة خسائر يعترف بها العدو منذ بدء الجولات العشر. كما استخدمت المقاومة صاروخًا موجّهًا ضد المدرعات "كورنيت"، أصاب ناقلة جند، ردًا على تصريح لناطق باسم الجيش الصهيوني عن تحريك لواء دروع ولواء غولاني باتجاه الحدود مع غزة.
أصبحت الخيارات واضحة؛ أن تتوسع دائرة النار، فتشمل أرجاء الكيان الصهيوني الذي تديره حكومة تصريف أعمال، وينتهي الموسم السياحي الذي على وشك أن يبدأ بالاحتفالات الصاخبة لمهرجان الأغنية الأوروبية المقام هذا العام في الكيان الصهيوني. أو أن ينصاع مرة أخرى، فيقبل بالشروط السابقة ذاتها، ويعيد الاعتبار إلى اتفاق "تسهيلات مقابل هدوء"، بل وأن يوافق، للمرة الأولى، على أن يكون اتفاق وقف إطلاق النار متبادلًا ومتزامنًا، لتنعم غزة بفترة هدوء إضافية إلى حين.
خلال هذه الجولة، أوقفت جميع القنوات التلفزيونية الصهيونية برامجها، وبدأت موجة بث مفتوح لمتابعة ما يجري، ومثلها فعل عدد وافر من وسائل الإعلام العربية والدولية، ذلك أن غزة كانت الخبر الرئيس، وتطورات الوضع فيها تحظى باهتمام الجميع. في وسائل إعلام السلطة الفلسطينية ساد صمت مطبق، استمر الحال على ما هو عليه من برامج تقليدية ووصفات طعام وأغانٍ، بل ألقى الرئيس محمود عباس خطابًا لم يتطرق فيه إلى الاعتداء الصهيوني على غزة بكلمة، ولو من باب إنساني، كأن يستنكر اغتيال رضيعة حفلت وسائل الإعلام في العالم كله بصورها.
هي جولة سبقتها جولات، وستليها جولات أخرى كلما برز استحقاق جديد، فهذا هو قدر غزة وأهلها ومقاومتها، السير تحت وابل القذائف، والصمود، بانتظار صحوة ما في فلسطين كلها، ويقظة منتظرة من الضميرين، العربي والإنساني.