استراتيجياً، يوجد أمام إسرائيل واحد من خيارين: إما أن تستمر في كونها دولة أمنية أو تتفاهم مع الناس الذين شردتهم وتسيطر عليهم
إذا ما شعر بنيامين نتنياهو بالحاجة إلى الراحة والاستجمام من المتاعب والمشاق التي يسببها له كونه رئيس وزراء إسرائيل الأطول مدة في تاريخها، وإذا ما كان ثمة سقيفة بإمكانه أن يأوي إليها ويختبئ فيها هرباً من واحد من التحقيقات الشرطية الخمسة التي تتهدده، فمن المؤكد أن مثل هذا المكان المريح نسبياً هو "الحفرة".
والحفرة هو الاسم الذي يطلق على الملجأ الذي يوجد على عمق عدة طوابق تحت قاعدة كيريا في تل أبيب، التي تمثل المركز العصبي لعمليات الجيش الإسرائيلي. إنه المكان الذي يهبط إليه بانتظام رؤساء الوزراء ووزراء الدفاع ورؤساء الموساد والشين بيت في الأوقات التي تكون عملية عسكرية ما قيد التنفيذ.
ومن هنا بإمكان نتنياهو أن يلقي نظرة على ما أنجزه في حياته: تحكم إسرائيل المطلق، والذي لا قبل لأحد بتحديه، بكل ما تستطلعه.
سادة الأرض
بإمكان القوات الجوية الإسرائيلية شن هجمات متكررة على أهداف إيرانية داخل سوريا دون أن يضطر سكان إسرائيل إلى الهروع إلى الملاجئ الواقية من القصف الجوي. وبإمكان الجيش الإسرائيلي التعرف على الفلسطينيين غير المسلحين الذين يقتربون من السياج في غزة وإطلاق النار عليهم متى ما أراد وقتلهم أو إصابتهم بجروح.
يتم استهداف المتظاهرين عمداً برصاص يهشم سيقانهم ويُحوجهم إلى الخضوع لعمليات جراحية طوال حياتهم – عمليات جراحية ليست في متناولهم أصلاً. وهذا ما يعنيه أن يكون الإسرائيليون سادة الأرض في عام 2019، كما عبر عنه ذات مرة المؤرخ الإسرائيلي (المعادي للصهيونية) أفي شليم.
يصنف الجيش الإسرائيلي في المرتبة الثامنة في العالم من حيث القوة. بإمكان إسرائيل الانسحاب من المعاهدات والمنظمات الدولية التي تشعر أنها لم تعد ملائمة لها، وبإمكانها التنمر على النخب السياسية في واشنطن ولندن وباريس وبرلين حتى تضمن الأمان من المساءلة والعقاب على أفعالها. بينما يجد النشطاء الفلسطينيون أنفسهم يصنفون كإرهابيين في قوائم البيانات، مثل تلك التي تعرف باسم وورلد تشيك، ويتم نتيجة لذلك إغلاق حساباتهم المصرفية من قبل المنظومة البنكية حول العالم.
ويمكن تشويه سمعة السياسيين المؤيدين للفلسطينيين مثل زعيم حزب العمال جيريمي كوربين. أما السياسيون الذين لا معرفة لديهم ولا اهتمام بالمنطقة فيبقون أسرى حالة من الرعب خشية أن يتهموا بمعاداة السامية.
لقد فرضت إسرائيل بالزجر والترهيب على المجتمع الدولي الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية كما لو كانا شيئاً واحداً، وأجبرته على توسيع دائرة التعريف التاريخي للمصطلح في نفس اللحظة التي كانت فيها أوروبا تشهد ارتفاعاً في عدد الهجمات التي تشن على اليهود.
وكما كتب جيدعون ليفي في صحيفة هآريتز: "يصعب على المرء أن يفكر ببلد ليس الولايات المتحدة ولا روسيا ولا الصين لديه الجرأة على التصرف بهذا الشكل. فقط إسرائيل بإمكانها القيام بذلك."
بات لدى إسرائيل زعماء عرب في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين وسلطنة عمان يدينون لها بالولاء، بل باتت الإمارات العربية المتحدة على استعداد لإسقاط ورقة التين المتمثلة بعمان، العاصمة الأردنية، والتي تمرر عبرها رحلات طيران مباشرة إلى دولة عربية مازالت لم تعترف بها رسمياً بعد.
يكتب نتنياهو السياسة الخارجية لحلفاء إسرائيل عبر العالم ويجد لدى دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر كل ما يحتاج إليه من عون في ذلك. واشتهر عن اثنين من مبعوثي الولايات المتحدة، سفيرها دافيد فريدمان ومستشارها للأمن القومي جون بولتون، أنهما أكثر ارتباطاً بإسرائيل منهما ببلدهما.
لا يعني ذلك أن إسرائيل والولايات المتحدة ستستمران في السير مع بعضهما البعض بإيقاع واحد. بل ثمة مشاعر متنامية من الاستياء والامتعاض من النفوذ الذي يمارسه كوشنر من وراء الكواليس للتأثير على قطاعات تقليدية تناط بها صناعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة داخل واشنطن.
وتفقد إسرائيل مساندة الجالية اليهودية الليبرالية في أمريكا، لنفس السبب الذي جعل نتنياهو ينقل ولاءه إلى قاعدة ترامب المسيحية الصهيونية. وحينما يذهب كوشنر، قد يجد نتنياهو ترامب في حالة تأمل واستغراق إزاء المبالغ التي تكبده إياها إسرائيل على شكل مساعدات عسكرية.
منطقة وسط
يكون الاحتلال في أقوى أحواله عندما يكون الفلسطينيون في أضعف حالاتهم وعندما يكونون أكثر تشرذماً وانقساماً من أي وقت مضى. بوجود محمود عباس، والذي انتهت صلاحية رئاسته قبل وقت طويل، تبقى فلسطين بلا زعامة وتظل فتح منقسمة إلى فصائل متناحرة. وهذا يناسب إسرائيل. في نفس الوقت، يبدو عباس أكثر حرصاً على الاستمرار في حصار غزة من حرصه على جلب إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ولا عجب إذن أن يجد ترامب سهولة في إزاحة الأوراق التفاوضية الرئيسية لدى عباس عن الطاولة: القدس الشرقية، وحق العودة، ووضع اللاجئين أنفسهم.
بات حلماً بعيد المنال أن تقوم دولة فلسطينية مستقلة ومتواصلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية بعد أن تجاوز عدد المستوطنين فيهما ستمائة ألف مستوطن. وتلك نتيجة أخرى بإمكان نتنياهو أن يتفاخر بها على اعتبار أنها من إنجازاته. وبينما كان ذات يوم يصنف متطرفاً من قبل الصهاينة الليبراليين، بات نتنياهو اليوم يحتل منطقة وسط في الخطاب السياسي الإسرائيلي.
لا يوجد اليوم داخل الطيف السياسي الإسرائيلي من هو أكثر كارزمية من نتنياهو. لقد تلاشى اليسار الإسرائيلي وأصبح الجدل يدور بين من يطالبون بالفصل وبين من يدفعون باتجاه الضم.
لو كان هناك صوت يجسد الهوة التي تفصل ما بين الإسرائيلي الذي يعيش في مرمى الصواريخ (الفلسطينية) والفلسطينيين الذين يعيشون داخل قطاع غزة، فينبغي أن يكون ذلك الصوت لتلك المرأة التي أجرت معها مؤسسة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لقاء مؤخراً قالت فيه: "بالطبع هم تحت الحصار، ولكن لذلك الحصار أسبابه، فهؤلاء الناس يسعون لإطلاق النار على بيتي. اضطررت للتنازل عن كلبي لأنني لم أعد أتمكن من الخروج به للتنزه. لم يعد بإمكاني القيام بذلك. فأنا خائفة. وهم اختاروا ذلك. كانت لديهم انتخابات، وهم الذين اختاروا حماس."
هل انتهت اللعبة؟
من حق نتنياهو أن يتكئ داخل حفرته الخانقة، ويتناول كوزاً آخر من بوظته المفضلة بالفانيلا والفستق الحلبي، ويعلن بأن اللعبة انتهت.
إلا أنه لمما يثير الاهتمام أن نسمع في هذه المرحلة من الصراع الذي مضى عليه ما يزيد عن سبعين عاماً أصواتاً إسرائيلية تحذر بأن النصر لن يدوم، وأن مشروع إقامة دولة إسرائيل على أرض إسرائيل التوراتية ما بين نهر الأردن والبحر سوف يتآكل وينهار من الداخل.
ومن آخر الشخصيات التي ضمت صوتها إلى التحذير من ذلك المصير المشؤوم بيني موريس، أحد كبار المؤرخين الإسرائيليين.
كان موريس في وقت من الأوقات يصف نفسه بالمؤرخ الجديد، وذلك بفضل بحثه الذي كشف فيه عن الحقيقة المتعلقة بمولد إسرائيل، والتي بذل من شاركوا في ذلك الميلاد جل وقتهم وطاقتهم في طمسها. فقد أورد في كتابه الذي صدر بعنوان "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947 – 1949" تفاصيل عمليات الطرد الجماعي والتطهير العرقي وجرائم الحرب التي ارتكبت ضد الفلسطينيين آنذاك. ويذكر لموريس أنه رفض كجندي احتياطي الخدمة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أثناء الانتفاضة الأولى.
ولكن ما لبث موريس بعد ذلك أن عاد وانضم إلى صف المؤرخين الذين يراكمون الخداع فوق الخداع، وسعى للتخلص من كل أثر لما اكتشفه بنفسه من أدلة. وعندما زعم أن "الرفض الفلسطيني المبدئي والعميق" هو لب الصراع وأن المستوطنات يمكن أن تنجز بدهاء، إنما كان يضفي ما وصفه دانيال ليفي بقشرة من الاحترام الذهني على كذبة طالما تمرن أصحابها على ممارستها.
وكما أشار ليفي في معرض رده على موريس عام 2012، تغطي المستوطنات في الضفة الغربية 42 بالمائة من مساحة الأراضي الخاضعة للتخطيط البلدي والمناطقي. حينها كانت المستوطنات الثلاث عشرة المقامة ما بعد خط الهدنة الدولي داخل القدس الشرقية يسكنها ما يقرب من 187 ألف يهودي، أي ربع سكان القدس. ولكن، تغيرت الآن كل هذه الأرقام.
منذ ذلك الحين، لم يفتأ موريس يصف تشريد الفلسطينيين وسلب ديارهم منهم بأنه شر لابد منه. بل قال إن بن غوريون لم يقم بما يكفي، وذلك أنه لم يطرد جميع الفلسطينيين إلى الجانب الآخر من نهر الأردن في عام 1948، ثم اقترح سجن الفلسطينيين في أقفاص لأنه "يوجد هنالك حيوانات برية".
في مقال له في صحيفة هآرتس، تحسر موريس قائلاً: "فقط لو أن حرب الاستقلال انتهت بفصل تام بين الجانبين، بحيث يصبح عرب أرض إسرائيل في الجانب الشرقي من نهر الأردن ويصبح اليهود في الجانب الأيمن من النهر. لو حصل ذلك لكن الشرق الأوسط أكثر استقراراً، ولكانت معاناة الشعبين خلال السبعين عاماً الماضية أقل بكثير. ولكانوا قد رضوا بدولة – من نوع ما {هي في يومنا هذا المملكة الأردنية} – حتى وإن لم تكن بالضبط ما كانوا يطمحون إليه. ولكنا نحن قد حصلنا على كامل أرض إسرائيل لأنفسنا."
في آخر تصريح له، أعلن موريس أن إسرائيل لن تبقى.
قال موريس: "لا أدري كيف يمكن أن نخرج من هذا الوضع. فاليوم يوجد من العرب أكثر مما يوجد من اليهود ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن. ولا مفر من أن تصبح المنطقة بأسرها دولة واحدة تعيش فيها أغلبية عربية. مازالت إسرائيل تصف نفسها بأنها دولة يهودية، ولكن لا يمكن بحال في القرن الحادي والعشرين – في العالم المعاصر – الإبقاء على وضع نظل فيه حكاماً لشعب يرزح تحت الاحتلال بلا حقوق. وفي اللحظة التي يصبح لهم فيها حقوق، فلن تكون الدولة بعدها يهودية".
يعتقد موريس بأن العرب مجبولون بفطرتهم على العنف والعداء وأنهم عازمون على تدمير إسرائيل، ورغم أنه مازال يزعم بأن وجود دولة فلسطينية منفصلة أمر مرغوب فيه، إلا أنه لا يرى من المناسب أن يتحقق ذلك الآن. يرى موريس في مسمى الشرق الأوسط شيفرة لمصطلح التخلف، وهو هنا يمثل بشكل تام ما يعتقده شعبه.
وحول الواقع الحالي للدولة الواحدة ، يقول موريس: "سوف يتردى هذا المكان ليصبح دولة شرق أوسطية ذات أغلبية عربية. وسيستمر العنف بين مختلف المكونات السكانية داخل الدولة في التصاعد، وسيطالب العرب بعودة اللاجئين، وسيبقى اليهود أقلية صغيرة في بحر عربي ضخم من الفلسطينيين – أقلية مضطهدة أو أقلية مذبوحة، كما كان حالهم عندما كانوا يعيشون في الأقطار العربية. ومن استطاع من اليهود الفرار فسيتوجه إلى الولايات المتحدة وإلى الغرب".
أشعلت مداخلة موريس الأخيرة جدلاً عنيفاً عبر الأعمدة في صحيفة هآريتز الإسرائيلية ذات الميول الليبرالية. انقض عليه الكاتب جيدعون ليفي، الذي يكتب في هآريتز وله مساهمات في ميدل إيست آي أيضاً، قائلاً: "طبقاً لموريس ومن على شاكلته، يولد العرب ليكونوا قتلة. ما من فلسطيني إلا ويصحو من نومه في الصباح ليسأل نفسه من هو اليهودي الذي سأذبحه في هذا اليوم، وأيهم سوف ألقي به في البحر؟ إنها هواية من نوع ما. وإذا كان الحال كذلك، فلا يوجد ما يمكن الحديث عنه ولا يوجد من يمكن التحدث إليه".
ويضيف ليفي: "تسعى هذه المدرسة الفكرية الكذوبة إلى إعفاء الصهيونية وإسرائيل من كل مسؤولية. ففي كل الأحوال، أي شيء تفعله إسرائيل سيقابل بمذبحة، وما هي إلا مسألة وقت".
ومضى ليفي يقول: " إلا أن المؤرخ الذي وصف كيف بدأ الأمر كله، والذي أدرك أن البداية استلزمت خطيئة أصلية مريعة – تمثلت في تجريد مئات الآلاف من الناس من ممتلكاتهم وطردهم من ديارهم، ثم استخدام القوة لمنعهم من العودة، كما بين بالتفصيل في كتابه – ليس مستعداً لربط السبب بالأثر."
لا يوجد دولة فلسطينية
ثمة واجهة فضية لهذه الغيوم الحبلى بالصواعق. فمن خلال تجريد إسرائيل من أي هدف أخلاقي، ومن خلال التصريح بشجاعة بأن مشروع الحفاظ على دولة ذات أغلبية يهودية يفوق كل الاعتبارات الأخرى، بما في ذلك الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني الذي يعيش هناك، يكون الجدل قد عاد بعقارب الساعة إلى العام 1948.
أقل ما يقال في ذلك أنه أصدق من كل الكلام الذي كتب لعقود حول عملية السلام، ومن كل النقد المضلل الذي زعم بأن إسرائيل كانت باستمرار رغبة في إتمام تسوية ولكنها لا تجد من تتحدث معه، ومن كل المزاعم بأن الفلسطينيين كانوا يرفضون كل ما كان يعرض عليهم من مقترحات.
يوجد لدي ما يثبت الخداع الذي مورس في الوعود المتضمنة في اتفاقيات أوسلو، ومصدري في ذلك شخص قضى عمره في السعي لإنجاز مشروع حل الدولتين وفي الإعداد لخطة يتم بموجبها الاشتراك في القدس بوصفها مركزاً عالمياً للأديان. إنه عدنان أبو عودة، وزير الإعلام في عهد الملك حسين ومستشاره في الشأن الفلسطيني، والذي ذكر لي حادثة وقعت في مارس من عام 1991، أي قبل مؤتمر مدريد بشهور وقبل اتفاقيات أوسلو بعامين.
وصل إلى مسامع الملك ما يفيد بأن الولايات المتحدة تنوي القيام بمبادرة سلام في فلسطين، فأراد أن يعرف ما الذي يجري. تم ابتعاث "أبو عودة" إلى واشنطن لمعرفة ما الذي يدور بخلد الأمريكان. ومن باب التمويه والنأي عن الصحافة، اصطحب أبو عودة معه عضواً في الديوان الملكي الأردني إلى اجتماع في مجلس العلاقات الخارجية في سان فرانسيسكو، ثم قفل عائداً إلى واشطن دون أن ينتبه إليه أحد.
وهكذا وجد عوده نفسه جالساً في مكتب جيمس بيكر، الذي كان حينها وزير خارجية الولايات المتحدة. لاحظ عوده أن الساعة على الحائط كانت مؤقتة مع ساعة موجودة داخل مكتب سكرتير الوزير، وكانت ترن كل خمس عشرة دقيقة، فكانت تلك إشارة إلى السكرتير لكي يدخل ويصطحب الضيف إلى الخارج.
تكلم بيكر بلطف حول الخطط المعدة للمؤتمر الدولي القادم، وبعد خمس عشرة دقيقة رنت الساعة مؤذنة بانتهاء اللقاء، وهنا سأل بيكر: "هل كنت معك واضحاً؟" أجابه عوده: "لا." تنهد بيكر وجلس ثانية في مقعده، وأومأ إلى السكرتير فما كان منه إلا أن عاد من حيث أتى. وبعد خمس عشرة دقيقة أخرى رنت الساعة ثانية وظهر السكرتير من جديد. إلا أن عودة أصر على المكوث قائلاً: "ما الذي سنذهب من أجله إلى هذا المؤتمر؟".
قال بيكر لسكرتيره بأن يغادر تارة أخرى.
وعندها قال بيكر: "يا سيد عودة. سوف أخبرك بشيء واحد كوزير للخارجية. لن تكون هناك دولة فلسطينية. سيكون هناك كيان، أقل من دولة، وأكثر قليلاً من الحكم الذاتي. مفهوم الآن؟ وهذا أفضل ما أمكننا التوصل إليه مع الإسرائيليين".
حل الدولتين: خرافة مريحة
حصل الفلسطيني على الإجابة التي جاء من أجلها. وكان قد سمع نفس الشيء من السوفيات قبل عشرة أعوام، وكانوا هم الداعمين الرئيسيين للفلسطينيين. لقد قال له يفغيني بريماكوف، كبير الخبراء العرب في الاتحاد السوفياتي، في عام 1981: "يا عدنان، إنس الموضوع. لن تكون هناك دولة فلسطينية".
منذ ذلك الحين ومفهوم "حل الدولتين" لا يزيد عن كونه خرافة مريحة للصهاينة اللبراليين. بالنسبة للمؤرخين الإسرائيليين الآخرين، مثل إيلان بابيه، لم يكن يوجد في أي وقت نية إسرائيلية حقيقية في أوسلو لإقامة دولة فلسطينية.
الصهيونية الليبرالية، التي يعرفها بابيه على أنها حركة استعمارية استيطانية كلاسيكية، كانت لديها دوماً مشكلة في مساواة الجغرافيا بالديموغرافيا. قال بابيه في محاكاة لموقف هؤلاء الصهاينة: "كيف يمكنني أن أحصل على أكبر قدر ممكن من فلسطين بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين ودون أن أنال من سمعتي كديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط؟"
لقد ساعدت أوسلو هذا المشروع من خلال توفير غطاء. يقول بابيه: "أكبر افتراء في أوسلو كان الصيغة التالية: دعونا نحصل على السلام، وإذا نجح السلام، فسوف تتوقف إسرائيل وسوف تتوقف عن الاغتيالات وعن الطرد".
وأضاف بابيه: "حتى الفلسطينيون الذين يدعمون حل الدولتين قالوا: لا، بل العكس هو الصحيح، توقفوا عن الاحتلال، وأخرجوا جنودكم، ثم بعد ذلك سيكون لدينا الفرصة للحوار من موقعين متكافئين".
على الأقل تبدد الضباب الذي كان يكتنف ما كان يحدث، وبات الأمر واضحاً للعيان.
خيار واضح
ليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يتعرض فيها هذا الجزء من الشرق الأوسط للاحتلال من قبل الأوروبيين. وليست المرة الأولى التي يستند فيه مشروع استعماري في سبيل اكتساب شرعيته على النصوص التوراتية. وليست المرة الأولى التي يصمم فيها المشروع الاستعماري بشكل محدد من أجل تجريد القدس من هويتها الإسلامية.
لكم يتطابق ما أورده أمين معلوف في كتابه "الحروب الصليبية كما رآها العرب" مع واقعنا الحالي. كانت المدن تقع في أيدي جيوش الفرنجة الواحدة تلو الأخرى بينما انشغل حكامها بالانقضاض على بعضهم البعض، كما يحدث اليوم في دول الخليج.
وكم في التاريخ من مفارقات. لم يكن زعيم المقاومة ضد الغزاة الفرنجة عربياً، بل كان البطل صلاح الدين الأيوبي كردياً، وكان زنكي ونور الدين وقطز وبيبرس وقلاوون من الترك لدرجة أن بعض آمري القوات في الميدان كانوا بحاجة إلى المترجمين حتى يفهم بعضهم على بعض.
كان المقاومون يعتبرون أنفسهم أكثر مدنية من مهاجميهم. كانوا بالتأكيد أكثر تقدماً في النواحي الصحية والطبية وكانوا كما يروي التاريخ أقل همجية من الفرنجة الذين استباحوا مدينة المعرة في عام 1098. ولا أدل على ذلك مما ورد في مذكرات رادولف أوف كاين الذي كتب يقول: "لقد سلق جنودنا الوثنيين البالغين في قدور الطهي وسلكوا الأطفال بالرماح والتهموهم بعد أن شووهم".
ولطالما استحضر الزعماء العرب في الزمن الحديث سيرة صلاح الدين الذي اعتبروه أسوة حسنة، وكان جمال عبد الناصر يعشق المقارنة بصلاح الدين، لدرجة أن اثنتين من الفرق الثلاث في جيش تحرير فلسطين أطلق عليها اسم حطين وعين جالوت، تلك المعارك الفاصلة في المواجهة مع الفرنجة.
من المؤسف أن المقارنة تنتهي عند هذا الحد. وذلك أن فتوحات صلاح الدين لم تبدأ إلا بعد أن وحد القوات في مواجهة الغزاة الأوروبيين، وبعد أن تمكن من إقامة دولة عربية قوية، واضعاً بذلك حداً للتجزئة والانقسام الذي كانت كل مدينة فيه تشكل دولة. ومع ذلك، استغرق إنهاء وجود الفرنجة بشكل كامل في المشرق زمناً ولم يكتمل إلا بعد مرور ثمانية وتسعين عاماً على وفاة صلاح الدين. ولكنه انتهى في نهاية المطاف.
لقد فشل الصليبيون لأن مشروعهم كان يهدف إلى استبدال شعوب المنطقة بدلاً من الاندماج معهما. أقام الصليبيون مؤسسات راسخة، وكان الحكم ينتقل من جيل إلى آخر دون حروب أهلية دموية. وعرفوا كيف يقيمون التحالفات مع أمراء المسلمين في قتالهم مع الأمراء الآخرين. إلا أنهم فشلوا في الاندماج مع المنطقة.
قلعة صليبية ضخمة
تحيط إسرائيل نفسها اليوم بالجدران، فهي تمثل قلعة صليبية ضخمة، لديها تحالفات مع أمراء دول المدن العربية الأخرى. أما الشارع العربي، فحتى لما منح نصف فرصة للتعبير عن شعوره، فإنه يعبر عن عداوة لدودة لها.
لقد تعرضت سفاراتها في مصر والأردن للاقتحام، وهذا هو الأمر الذي ينبغي أن تتأمل فيه إسرائيل بعد عقود من الصراع. وها هي غير قادرة على إشراك الآخرين معها في القدس كمركز ديني عالمي.
يوشك سكان القدس من المسيحيين على التلاشي. ما هي الرسالة التي توجه إلى العالم العربي؟ الاعتماد، كما هو ديدن رؤساء وزراء إسرائيل المتعاقبين، على الأمر الواقع القائم على سياسة فرق تسد، الاعتماد على تشتت الصف العربي، الحديث فقط مع الطغاة الذين لا شرعية حقيقية لهم والذين يخافون الرأي العام فيقمعونه، واعتبار وجودهم حقيقة دائمة في هذه الحياة على الرغم من المتغيرات الدرامية التي تطرأ على العالم؟ لو كان الأمر كذلك، فإنه لعمرك مقامرة حقيقية.
كتب ليفي يقول: "عشية العام الجديد، لا تواجه إسرائيل تحديات تهدد وضعها المتفوق عسكرياً والذي يمكنها من ممارسة العدوان متى ما شاءت. يبدو أن بإمكانها الاستمرار في فعل ما تقوم به – في المناطق المحتلة وفي الشرق الأوسط وفي العالم قاطبة. التاريخ وحده هو الذي يصر على تذكيرنا من وقت لآخر بأن مثل هذا الاستعراض للقوة حتى الثمل ينتهي في العادة بشكل سيء، وسيء جداً".
إلا أن ثمة مخرج من هذا الصراع الحارق للذات، وهنا يتوجب اللجوء إلى خيار استراتيجي واضح.
إما أن تستمر إسرائيل في تعميق الحفرة التي وقعت فيها، فتستمر في التصرف كقوة غاشمة، كدولة أمنية، يعتمد أمنها على مستويات أعمق وأعمق من القمع والتنكيل. بات من المعتاد أن يمر أربعون بالمائة من الفلسطينيين الذكور بالسجون الإسرائيلية.
أو بإمكانها أن تفعل ما لم تجربه حتى الآن. بإمكانها أن تتفاهم مع الناس الذين شردتهم وتهيمن عليهم وتحترم ثقافتهم. بإمكانها أن تعاملهم على قدم المساواة، وأن تعتبرهم شعباً له نفس الحقوق في ممتلكاتهم وفي أراضيهم وفي قراهم، تماماً كتلك الحقوق التي منحها الإسرائيليون لأنفسهم. بإمكانها أن تجرؤ على لفظ اسمهم والاعتراف بهويتهم. بإمكانها أن تعاملهم كشعب له تاريخ وله ذاكرة.
الطريق الوحيد
إن الزعم، كما فعل موريس، بأن إسرائيل حينما تعيد للفلسطينيين حقوقهم فإنها تنتهي كدولة يهودية، ما هو سوى كشف عن الطبيعة الحقيقية لهذا المشروع.
نعم، حتي يحدث ذلك فإن ذريات الإسرائيليين من اليهود الذين جاءوا من أوروبا ومن روسيا ومن الدول العربية سيتحتم عليهم إغلاق الباب على تاريخهم الجمعي الذي يصيح بهم قائلاً إن بإمكانهم التمتع بالأمن وبتقرير المصير فقط داخل دولة ذات أغلبية يهودية.
ولكن هذا سيعني أنه يتحتم على الفلسطينيين أيضاً أن يدفنوا تاريخهم، تاريخ التطهير العرقي، والتشريد والسجن، إنها نيران مازالت ألسنتها مشتعلة. إنها ذاكرة لا تمحى، ولا يوجد ما يمكن لإسرائيل أن تفعله حتى تمحوها. لا يوجد بين الفلسطينيين من يحتاج لمن يعلمه تاريخه، ولا يوجد طفل فلسطيني يحتاج لمن يحرضه، فهم يعرفون تاريخهم ويتنفسونه، ويعيشون تشردهم وحرمانهم في كل يوم من أيام حياتهم.
ولا، لا يوجد ما يضمن أمن الأقلية اليهودية في دولة تسكنها أغلبية مسلمة ومسيحية إلا تلك الضمانة التي يوفرها السلام، وإلا تلك الضمانة الناجمة عن الأمن المشترك، والعدل المشترك والحكم المشترك.
هذا هو الطريق الذي سلكته جنوب أفريقيا وسلكته شمال إيرلندا. وهو الآن الطريق الوحيد نحو السلام والشرعية وهو الاستراتيجية الوحيدة التي يمكن لها أن تدوم. أما الصراعات فبإمكانها أن تنتهي، وهي فعلاً تنتهي.