شبكة قدس الإخبارية

العلوم الاجتماعية الفلسطينية كمعرفة إستعمارية

خالد عودة الله
خالد عودة الله
تتكون هذه المداخلة من قسمين؛ الأول عبارة عن مقدمتيْن: الأولى تتعلق بما أسمّيه “حمّى المراجعات” التي تجتاح المشتغلين في العلوم الاجتماعيّة الفلسطينيّة، والثانيّة: حول الاستدخال النشط للعلوم الاجتماعيّة في الحروب الاستعمارية للحداثة المتأخرة. وأما القسم الثاني فيتكوّن من ستّ نقاط هي مواقع أرى فيها المعرفة التي تنتجها العلوم الاجتماعية الفلسطينية كمعرفة استعمارية. أبدأ مداخلتي هذه بمقدمتيْن، الأولى: انتشار “لحمى المراجعات والتنقيح” في العلوم الاجتماعية الباحثة في فلسطين وعن فلسطين، واستئناسا بمقولة ألتوسير بأننا لا نفكر أحرارًا وإنما نفكر دائما مضطرين وتحت الضغط، فإننا بحاجة للتفكير في الضغوط التي يقع تحت تأثيرها المشتغلون بهذه العلوم لكي يظهروا هذا النشاط في عمل المراجعات، وكيف تؤثر هذه الضغوط على موضوعاتنا وطرق تفكيرنا. تتحدّد ”أبستيمية” المراجعات على مستوى المنهجيات بمجموعة من التحوّلات باتجاه البحوث “الإثنوغرافية”: ممارسات الحياة اليومية، المستوى الجزئيّ، الحكايات الصغرى، الوجود كحكاية والابتعاد عن ثنائية المُستعمِر والمُستعمَر كثنائيّة ناظمة للبحث الاجتماعي في السّياق الاستعماريّ. وعلى مستوى العلاقة بالنماذج النظرية فيمكن تشخيص تكثيف لعملية يمكن تسميتها بـ “نزع الخصوصية عن الحالة الفلسطينية”، كأحد تبعات الانخراط في نظام المعرفة المُعولم بأبعاده الفلسفية والاقتصادية. وهنا أتساءل: ما الذي يبقى من فلسطين إذا ما درست بالمعنى المزدوج (الدرس بمعنى البحث وبمعنى الدّوس) كتجلٍّ محليٍّ لنموذج نظري مُعوْلَم؟ وماذا يبقى من فلسطين إذا ما تحوّلت إلى discipline كذلك بالمعنى المزدوج (بمعنى تخصّص أكاديمي وبمعنى التأديب)؟ فعلى سبيل المثال: ما الذي يبقى من تجربة اللجوء إذا ما درست كأحد أشكال الهجرة القسرية، وما الأبعاد السياسية لهذا الدرس؟ وما الذي نخسره معرفيا عندما نسمّي الاستشهادي “انتحاريًا” لكي يتلاءم مع اشتراطات النظرية، وكيف تقلم هذه العملية الظواهر وتشذبها لتستدخل في “نظام الأشياء” للمعرفة الغالبة.وأما المقدمة الثانية فهي تتعلق بتطوّر نوعي لدور العلوم الاجتماعية في الحروب الاستعمارية للحداثة المتأخرة، حيث تشير الكثير من الأدبيات الصّادرة عن مراكز الأبحاث في الجيش الأمريكي والبريطاني والكندي والأسترالي والصهيوني، إلى ما يُسمّى “الانعطافة الثقافية”، في الحروب المعبّر عنها بـ culture centric warfare حيث يشكل السّكان المدنيون في المجتمعات المستهدفة مجال عملياتها عن طريق الهندسة الاجتماعية، ويتمّ التأريخ لهذا التحوّل بمراجعة أساليب واستراتيجيات الجيوش الأمريكية والأوروبية في ضوء فشلها في العراق وأفغانستان وغيرها.تقوم حروب الثقافة بتسمياتها المتعدّدة (“إثنوغرافيا الصّراع” أو “العمل الاجتماعي المسلح”، “الانتقال من القنبلة الذكية إلى الجندي الذكي”) على الاعتماد على ما يُسمّى بالمحاربين المثقفين المؤهلين وحاملي شهادات عليا في العلوم الاجتماعية -الإنثروبولوجيا أساسًا- وقد كان أوّل ثمار هذا التحول إنشاء قوّات الصّحوات للعشائر العراقية، الذي سلحت وكلفت بمواجهة المقاومة العراقية، وكلفت لهذه الفرق من علماء الاجتماع والإنسان بالإشراف على مهام عملية بناء الدولة والمؤسسات وتنسيق حملات ما سُمّي بـ “فرض القانون”. بعد المؤشرات الأولية لنجاحات هذا التوجّه اتخذت قرارات في وزارة الحرب الأمريكية بتخصيص مبلغ 100 مليون دولار لإنشاء بنية تحتية للجهد البحثيّ لدراسة ثقافة المجتمعات المستهدفة تضمّ العديد من مراكز الأبحاث في الجامعات الأمريكية (برنستون، هارفارد، كاليفورنيا) والمستقلة لتنشأ شبكات تضم الباحثين داخل أمريكا وأوروبا، إضافة إلى امتدادات داخل المجتمعات المستهدفة. وعلى الرغم من أنّ العلاقة ما بين العلوم الاجتماعية والاستعمار ليست بالجديدة، إلا أنّ ما يميّز التحوّل المعاصر في هذه العلاقة هو الحجم: كمّ هائل من المشاريع البحثية ونقد للمعرفة الاستعمارية التقليدية (الإستشراقية) المُؤسّسة على عالمية المفاهيم الغربية وثنائيات الحداثة والتقليد، وبالتالي التركيز على منهجيات الإثنوغرافيا والبحوث الكيفية والتاريخية والابتعاد عن الهوس الاستعماري التقليدي بالأرقام وبالوضعية، والتخلي عن النماذج التفسيرية التي تقوم على مفاهيم محدّدة للعقلانية (نظرية الألعاب,game theory (systems theory والتوجّه نحو النظريات النقدية في العلوم الاجتماعية مثل مدرسة فرانكفورت وما بعد البنيوية وغيرهما. وبهذا أصبحت قائمة القراءات المطلوبة للمحاربين الجدد تضمّ إدوارد سعيد ومشيل فوكو وجيل دولوز وفرانتز فانون وهوركهايمر وغيرهم. وأثمر هذا الاتجاه تحوّلا ممّا تسميه هذه الأدبيات الحروب ضد الثقافة إلى الحروب داخل الثقافة، ومن ثم تصميم رزمة من التدخلات المدنية في هذه المجتمعات تحت عنوانيْن رئيسيْن: بناء الأمة (nation building) والتنمية ثانيًا. وبالنتيجة أصبح متعذّرًا -في راهن العلوم الاجتماعية في العالم- التفريق على المستوى المنهجي والنظري بين العلوم الاجتماعية النقدية والعلوم الاجتماعية للمؤسّسة إلا بالاستناد إلى السياسي والإيديولوجي داخل هذه المعرفة، ويبرز هذا التحوّل ضرورة مساءلة النقد وأدواته التي أصبحت فيه المنهجيات أو التنظير النقديّ إحدى الأدوات الهامّة في بناء مشاريع الهيمنة، حيث يدفعنا هذا التحول إلى إعادة الاعتبار للعلاقة الكلاسيكية ما بين المعرفة والقوة بموازاة المفهمة الما بعد البنيوية لهذه العلاقة. العلوم الاجتماعية الفلسطينية كمعرفة استعمارية أولا: العلوم الاجتماعية والراهن الاستعماريّ في فلسطين: تشخص العلوم الاجتماعية الفلسطينية الرّاهن الاستعماري في فلسطين بالتوصيفات التالية: فلسطين (1967) بناء الدولة، فلسطين كحالة ما بعد استعمارية. وتبتعد هذه التشخيصات عن الجّهر بحقيقة ما يتم بناؤه من جهاز إداريّ أمني للسيطرة على السكان كأحد أكثف وأعنف وأنجح أشكال عمليات بناء الاستقرار (Stability operations) المتداولة في الأدبيات العسكرية، والمهندسة في القيادة الوسطى للجيش الأمريكي المُسمّاة midcom؛ فالضفة الغربية وما يجري فيها من عمليات هدم وبناء هي مختبر كبير لتدخل ثلاث تقنيات للحرب في الحداثة المتأخرة: عمليات بناء الاستقرار (stability operation) وعمليات مكافحة “التمرد” (counter insurgency operations- coin) ، ومكافحة “الارهاب” (ct counter terrorism) ، وفي هذه الأدبيات يتم تصنيف الضفة الغربية في ضمن النطاق الأول وغزة في ضمن النطاق الثاني والثالث، وتتوج عمليات بناء الاستقرار بما يسمى ببناء الأمة (nation building operations). تقوم العلوم الاجتماعية الفلسطينية فعليا/ بنيويا بدور نشط في التغذية والتغذية الراجعة في بناء تقنيات التدخل الاستعماري الأطلسي في الضفة الغربية، ولهذا نجد العديد من الدراسات المتعلقة بهذه المشاريع تقوم وقامت بها مراكز أبحاث محلية أو جهد بحثيّ مشترك بين باحثين من هنا وهناك، حيث تقوم المراكز المحلية على تزويد ما يسمى micro data كما يتضح من فقرات الشكر في الاستهلالات التي تبدأ بها هذه الدراسات. وتشكل العلوم الاجتماعيّة المحليّة -بنيويًا- استراتيجية “للدخول إلى البيت” فتكشف ما يتم حجبه وبقي بعيدًا عن التحديقة الاستعمارية، وهي بذلك تشكل إحدى الأدوات الهامّة في مداخلات نظام السيطرة الاستعماري في فلسطين، وبالتالي المساهمة في تحويل “الحيّز الحميميّ” كأحد أهمّ مجالات السّيادة والفعل الاستعماري في حروب الحداثة المتأخرة، حيث حوّل الجيش الإسرائيليّ “الحيّز الحميميّ” إلى ممرّ لقوّاته من خلال المرور عبر الجدران والأسقف في عمليات اقتحام المدّ والمخيمات الفلسطينية، والانتقال من تمثيل التجمّعات السُّكانية في الخرائط ثلاثية الأبعاد وأنظمة المعلومات الجغرافية(gis) العسكرية، من الحيز الفارغ إلى الحيز الثقافي-الاجتماعي. ثانيا: العلوم الاجتماعية الفلسطينية وجمهورية الـ usaid: الخبير والاخباري والمخبر إنّ معظم من يُسمّون اليوم بعلماء الاجتماع في فلسطين يمكن وصفهم بالخبراء الذين يستخدمون معارف السّوسيولوجيا والإنثربولوجيا في الهندسة الاجتماعية التي تقوم بها مؤسسات حكومية وغير حكومية (مع الاعتراف بإشكالية التفريق ما بين الحكوميّ وغير الحكوميّ). وتتعدّد مهام ومستويات الهندسة الاجتماعية التي تقوم بها العلوم الاجتماعية الفلسطينية؛ فثمة هندسة إبستيمية تقوم على بناء لمعانٍ من مثل العقلانية والواقعية والطوباوية والممكن والمستحيل من خلال تحويل السّياسيّ إلى معرفيّ. وثمة هندسة للسّردية الوطنية الفلسطينية، والتي أدلل عليها بالاقتباس التالي من مقدمة أحد الأعمال الأخيرة المشتركة ما بين مجموعة من علماء الاجتماع الفلسطينيين ونظرائهم “الإسرائيليين”: “يهدف هذا العمل المشترك للتوصّل إلى “إطار مشترك” لدراسة تاريخ الأرض المضطربة ]أي فلسطين]، من مؤرخين من جانبي الجدار. فعبر إنشاء حوار حول التاريخ والهوية ومعنى الصّراع، يسعى المشتركون للوصول إلى “سردية جاسرة” تشكل جسرًا بين خطابات تاريخية وسرديات وطنية متضاربة، ومن ثم ومن هذا الموقع يجري الفحص النقديّ للقضايا المُتنازَع عليها في هذا الصّراع من مثل النكبة والنكسة والاحتلال. والنتيجة هي نظرة جذرية جديدة لتاريخ فلسطين/”إسرائيل” تتجاوز تحيّزات السّرديات الوطنية للطرفيْن، وتشير نحو نموذج جديد لتصوير الصراع تاريخيًا”. يقوم الكثير من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية الفلسطينية بلعب دور الإخباريين المحليين (native informants) كما هو متعارف عليه في بحوث الأناسة الإثنوغرافية، حيث يقتصر دور البحّاثة المحليين على توريد البيانات الخام كمدخلات لعمليات التدخل الأطلسيّ، فلا يكاد يخلو زقاق أو حيّ في الضفة الغربية من لافتة تشير إلى مشروع تقوم بتنفيذه usaid أو نفذته هي أو غيرها من وكالات التنمية الدولية، ويأتي الوجود المكثف للـusaid في الضفة الغربية كشكل لما يسمى “بالتدخل المدني” أو ما تسمّيه العديد من الدّراسات الصّادرة عن مراكز الأبحاث الأمريكية “بكسب عقول وأفئدة الفلسطينيين”(Wining the Palestinian Hearts and Minds) والتي تحدّد مجالات التدخل والفئات المستهدفة. تساهم العلوم الاجتماعية الفلسطينية بتشكيل “الفلسطيني” كموضوع للتنمية بناءً على الحكمة الاستعمارية القائلة إنّ سبب “التخلف” عند غير الأوروبيين هو الثقافة “التقليدية”، وهنا يمارس المشتغلون في العلوم الاجتماعية مهمة مزدوجة كخبراء منفذين لهذه المشاريع وكإخباريين محليين مُلمّين بشؤون الثقافة المحلية، وفي هذا السّياق يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى “المصالحة التاريخية” بين طائر البوم وأهالي بلدة طمون الفلسطينية، برعاية usaid وحضور فلسطيني شعبي ورسمي. فخلال احتفال أقيم في أحد أوسع سهول شمال الضفة وفي عدد من الكلمات الطويلة عدّد فيها الخبراء والإخباريون مناقبَ وفضائلَ البوم كمُبيدٍ عضويّ للقوارض وصديق للبيئة، على عكس المبيدات الكيماوية التي تحدث ضرراً بالإنسان والحيوان والمحيط. وهنا أقتبس كلام خبير التنمية الفلسطينيّ المحليّ: “في مجتمع ريفيّ تؤثر الحكايات الشعبيّة المتوارثة عبر الأجيال في نمط التفكير العام والمعتقدات التي تخصّ الكثير من الطيور والحيوانات البرية، ويبدو أنّ تقبل وجود البوم في جوار منزل المزارع أمر صعب في البداية، لكننا نجحنا في تغيير هذه النظرة التقليدية السّلبية لطائر البوم”. لم تتوقف الأمور عند المصالحة ما بين أهالي طمون والبوم بل تعدّته إلى “مصالحة” ما بين مزارعي منطقة غور الأردن الفلسطينيين و”الاسرائليين” والأردنيين؛ فالبوم لا يعترف بالحدود على ما قاله أحد الخبراء الأردنيين المشاركين في المشروع. ثالثا : المعرفيّ والسّياسيّ في العلوم الاجتماعية الفلسطينية: في الأدبيات النقدية المُبكرة للعلوم الاجتماعية الفلسطينية المحلية، يتم انتقاد هذه العلوم (ما قبل أوسلو) بكونها شعبوية ومُسيّسة (أي مرتبطة بالمشروع الوطني الفلسطينيّ) إلى درجة كبيرة ممّا أفقدها القدرة على إنتاج معرفة نقدية للواقع الفلسطينيّ. ويقوم هذا النقد على تحليل ساذج وسطحيّ للعلاقة ما بين المعرفة والسّياسة، حيث أدّى هذا النقد إلى اتجاه بدا يتسع شيئا فشيئا وتحت مسمى العلمية والنظرة النقدية إلى خلق علماء اجتماع قابلين للارتزاق، بل والوقوف على أرضية المستعمر معرفيا بغواية الحداثة والعقلانية. تعرف العلوم الاجتماعية (في معظمها) الحالة الاستعمارية في فلسطين بعلاقة “إسرائيل” بالأراضي المحتلة عام 1967 (فلسطين/إسرائيل). لقد تحوّل البرنامج المرحليّ لمنظمة التحرير إلى ما يشبه “رؤية للعالم” شكلت البنية التحتية للبناء المفاهيميّ للكثير من إنتاجات العلوم الاجتماعية الفلسطينية. في اعتقادي أنّ هذا الافتراض التأسيسيّ (بالإضافة للوظيفة الاستعمارية التي أدّاها) ساعد في تدجين المشتغلين في العلوم الاجتماعية كمثقفين عُضويين للسّلطة، وأفقد العلوم الاجتماعية الفلسطينية القدرة على رؤية وتحليل الكلية الاستعمارية “في فلسطين المكوّنة من مستعمرين ومستعمرين يتوزعون على فضاءات استعمارية منوعة وتواريخ متعددة ومحكومين بآليات سيطرة ومقاومة متداخلة وجدلية. فلا أدري ما الفرق معرفيًا بين مستعمرة تل أبيب (1948) ومستعمرة معاليه أدوميم (1967)، وبالنتيجة قامت العلوم الاجتماعية الفلسطينية بتحويل المستوطنين الصّهاينة في فلسطين المحتلة عام 1948 إلى سكان أصليين. بقيت العلوم الاجتماعية الفلسطينية عاجزة عن ابتكار “جهاز مفاهيميّ” يمكنها من دراسة ورؤية المجتمع الفلسطيني كوحدة واحدة عبر فكّ العلاقة ما بين الحيّز والمناطقية والسّيادة، ورؤية العلاقات والعمليات التاريخية بعيدة المدى التي مرّ ويمرّ بها هذا المجتمع دون تجزيئه بالاعتماد على الجهاز المفاهيميّ القائم على التصنيفات الاستعمارية (1967-1948، لاجئ–نازح، أقلية-أغلبية). رابعًا: غواية الحداثة المدينية في العلوم الاجتماعية الفلسطينية: رام الله حداثة حضرية، أم منطقة خضراء ممتدة؟ تبدو العلوم الاجتماعية الفلسطينية مهووسة بالإعلان عن بزوغ شمس الحداثة المدينية وترى في مدينة رام الله استئنافًا لحداثة مدينية ساحلية غابرة. واتجهت أدبيات العلوم الاجتماعية الفلسطينية إلى رؤية هذا التحوّل كتحوّل حداثيّ ضمن السّياق التاريخيّ للمدينة وخاصّة التركيز على ما منحته مسيحية المدينة من مؤهّل مِرحاب بالحداثة والتعدّد، وتشكل “للخيال المدينيّ” حيث تعلن الذوات المدينية عن ذاتها كذوات حداثية عبر مجموعة من السّميائيات، أو عبر رؤية رام الله كمجال لانبثاق ممارسة سياسية طبيعية. في المقابل ألا يمكن النظر إلى رام الله كإحدى حالات المدينة الاستعمارية: منفذ ومركز محلي للسيادة الاستعمارية الحداثية المعولمة؟ وماذا عن رام الله العنيدة والمتمادية في حسد “جارتها” التي تطلّ عليها من بعيد- أي المدينة الاستعمارية المركز المُسماة “تل أبيب”، فتقلدها في كلّ شيء: فنون العمارة بواجهاتها الزجاجية وديكورات مقاهي النخبة وأماكن اللهو وصولا إلى متاجرها الحديثة وضواحيها الجديدة. من الممكن رؤية رام الله كمنطقة خضراء مُمتدّة مَحميّة بعقد استعماري جديد لتشكل حيّزًا للتأديب والتأهيل العنيفين للذوات الفلسطينية المستعمَرَة الجديدة، وحيزًا سيكولوجيًا تتعيّن فيه المفاهيم المجرّدة ويحتضن نشوء البراغماتيات وعمليات التنقيح والمراجعات. خامسًا: العلوم الاجتماعية الفلسطينية والتاريخ الشفويّ، أو التابع الممنوع من الكلام يتم عادة التأطير النظري للتاريخ الشفوي في الحالة الفلسطينية بمدرسة التابع الهندية، إلا أنّ هذا التأطير المعرفيّ، وخاصّة على المستوى التحليلي بقي مجزوءًا، حيث يتم التعامل عادة مع روايات التاريخ الشفوي (وكذلك مواد الأرشيف) كأحد مصادر كتابة التاريخ التي عادة ما توضع في مقابل التاريخ المدوّن أو الأرشيف الاستعماريّ، وكلّ ذلك دون الاعتماد على المكوّن الفلسفي النظري في دراسات التابع المهمومة بإعطاء الصوت لمن لا صوت لهم، كصانعين لتاريخهم ومقاومين للاستعمار، بالإضافة إلى نقد العلاقة ما بين القوة والمعرفة ونقد الوعي القومي النخبويّ وصولا إلى نقد علم التاريخ كجنس معرفي أوروبيّ ونقد الحداثة الاستعمارية والعلمانية. أقول هذا مع وعي بالمآلات المحزنة لمدرسة التابع التي أسكتت التابعين وهي تريد أن تنطقهم. لقد بقي استخدام التاريخ الشفويّ محدودا كتقنية بحثية دون إثراء هذا الاستخدام بالإطار التحليليّ–المفاهيميّ الذي ولد هذا التقنية؛ فلا يستقيم استخدام التاريخ الشفويّ مع مقولة “الوعي الرّيفيّ البائس أو الزائف” الذي يرى الباحث (ليبراليًا أو يساريًا) ذاته مخلصًا للتابعين من وعيهم البائس. فبالاعتماد على تأثير غرامشي الطاغي على مدرسة التابع، على الأقلّ في مرحلتها التأسيسية، كان الهدف من التاريخ الشفويّ الوصول إلى مواقع متحرّرة نسبيًا وغير ملوّثة بالحداثة الاستعمارية من أجل فهم حركات المقاومة الفلاحية بعيدًا عن التوصيف الحداثيّ لها بكونها متخلفة أو “ما قبل سياسية”. هناك ضرورة لأن تحقق دراسات التاريخ الشفوي نقلة في تعريفها للرواية الشفوية والأرشيف من أحد مصادر المعرفة إلى رؤيتها كموقع لإنتاج المعرفة. سادسًا: بيداغوجيا العلوم الاجتماعية تقوم دوائر علم الاجتماع والإنسان المحلية ببناء مقرّراتها التعليمية (المنهجيات والنظريات) على الثنائيات التأسيسية في الحداثة الاستعمارية (الحداثة–التقليد، الأسطورة–العلم، الرجعية-التقدّم، الجماعة–المجتمع، التطوّر–التخلف، الموضوعيّة–التحيز، المحلي–العالمي، الشعور بالذنب–الشعور بالعيب، الخاصّ–العام)، دون مساءلة نقدية جادة لهذه الثنائيات والتاريخ لظهورها ودورها في بناء منظومة الهيمنة الاستعمارية، وفي المحصلة تعمل هذه العلوم كجهاز ايديولوجي للنظام الاستعماري. كل هذا التأديب المعرفي المنظم يتم تمريره تحت الهالة المقدسة لكلمة “علم” وذلك دون مقدمات جادة في فلسفة العلوم ونظرية المعرفة وتاريخ العلوم الاجتماعية، ومع جرعة زائدة من التشديد على مفهوم “الموضوعية” وبصيغة صلبة للموضوعية لم تعد حتى متداولة في العلوم الطبيعية. والشقّ الآخر لهذا التأديب المعرفي يتم تحت عنوان مقولات نهايات السّرديات الكبرى ومقولات الخطاب (القوة/معرفة) لتتحوّل هذه المقولات إلى أيديولوجيا للعدم والاكتئاب أو للتحوّل من “المادية التاريخية” إلى المادية اللبيدية. واختم بنقد لظاهرة “النفاق النقدي” التي أراها ملازمة للعديد من النقديين والنقديات في العلوم الاجتماعية الفلسطينية. و”للنفاق النقدي” شعبتان أولاها: ما اجتمع اثنان من النقديين والنقديات إلا وكان نقد السّلطة ثالثهما وإذا ما انفضّ مجلس النقد تساقطوا على أطباق السلطة كالذباب. وأمّا الثانية، فمتعلقة بنقد “الارتزاق المعرفي” -(funding) بلغة أهل “الكار”- فما اعتلى أحدهم منبر نقد الارتزاق إلا وهو يتحسّس “البروبوزال” في جيبه خوفا عليه من الفراق.