القدس المحتلة-خاص قُدس الإخبارية: تقفان عند أقرب نقطة يُسمح لهما بالوصول إليها، بينما الأهالي يتوافدون إلى المسجد الأقصى عبر بواباته، عيناهما تراقبان الفرحة التي ارتسمت على وجوه المصلين الوافدين، ولا زالتا في نفس المكان، صوت المؤذن يكاد يصل إلى أذنيهما ليوقظهما من شرودهما، فتستعدان لأداء الصلاة على "الإسفلت"، ومجموعة من جنود الاحتلال يحيطون بهما.
ما أن يحل شهر رمضان المبارك، حتى ترحل العيون والقلوب إلى مدينة القدس، ويبدأ الوافدون من كل أنحاء فلسطين بالزحف نحو المسجد الأقصى، لأداء الصلاة، والدعاء، لكن حق العبادة هذا حرمته سلطات الاحتلال لكل من "هنادي الحلواني وآية أبو ناب"، إضافة إلى حرمانهما من أجواء رمضان في باحات الأقصى.
هنادي الحلواني التي أبعدها الاحتلال مرارًا منذ عام 2012 عن المسجد الأقصى، تسلّمت قرار إبعاد عن المسجد الأقصى قبل ستة أشهر لينتهي في الثالث عشر من الشهر الحالي، وهي التي كان الشوق يدفعها للنهوض مبكرا في اليوم التالي من أجل التوجه إلى الأقصى، إلا أن اتصالًا وردها في الصباح الباكر من سلطات الاحتلال، يعلمها بأنه يُمنع عليها التوجه إلى المسجد قبل أن تستلم القرار الجديد.
في الخامس عشر من أيار، توجهت هنادي إلى مركز شرطة الاحتلال "القشلة"، لتستلم من "قائد لواء منطقة القدس" قرارَا بالإبعاد الإداري عن المسجد الأقصى وأروقته مدة ثلاثة أشهر أخرى، يبدأ من تاريخ ذلك اليوم، ما يعني أن الحلواني ستقضي شهر رمضان مجددًا بعيدًا عن أحب الأماكن على قلبها.
للمرة الثالثة تُبعد سلطات الاحتلال الحلواني عن المسجد الأقصى، فقبل ثلاث سنوات تم إبعادها عن المسجد الأقصى، وقبل عامين أُبعدت عن البلدة القديمة، وهذا العام يبعدها الاحتلال عن الأقصى ومحيطه (أروقة الأقصى وبواباته).
وحول هذا القرار، تقول الحلواني لـ"قُدس الإخبارية"، " أن أُحرم من حقي في العبادة بقرار من الاحتلال فهذا إمعان في الظلم، وما يزيد من ألمي ووجعي أن بيتي يقع في حي وادي الجوز، وأرى المصلين يمرون من منزلي إلى المسجد الأقصى، أسمع صوت الآذان ولا أستطيع الدخول، الكل ينتظر شهر رمضان فنحن نعتبره شهر يُقضى بالأقصى، أشعر وكأنني ممنوعة عن الجنة".
رباط على الطريق
أما الشابة آية أبو ناب، فاعتقلتها قوات الاحتلال في الخامس من الشهر الجاري وخضعت للتحقيق، لتستلم قرار إبعاد عن المسجد الأقصى ومحيطه مدة شهر، لتكن تلك المرة الأولى التي يتم إبعادها عنه في شهر رمضان (النصف الأول منه). وفي حال مخالفة القرار تتعرض المبعدة للاعتقال ويتم تمديد إبعادها.
وقالت أبو ناب، لـ"قُدس الإخبارية"، "أقطن على بعد أمتار من المسجد الأقصى في باب حطة، عندما استلمت قرار الإبعاد قلبي بكى، فأنا منذ طفولتي معتادة أن أتواجد في المسجد الأقصى، فهو مصدر سعادتي، وإبعادي عنه يعني سلب سعادتي".
رغم قرار الإبعاد، إلا أن حلواني وأبو ناب لم تستسلما للقرار وتلتزما المنزل، بل ترابطان عند أقرب نقطة يسمح لهما بالوصول إليها، وكل يوم تؤديان صلاة التراويح قرب باب حطة أو باب الأسباط من الخارج، وهو ما دفع مخابرات الاحتلال لإرسال قوة من الجنود لمراقبتهما.
رباطهما عند أقرب نقطة إنما هي رسالة أرادتا إيصالها للاحتلال أولًا، مفداها بأنه لو تم إبعادهما جسديًا عن الأقصى، ففكرهما وروحهما متعلقتان به ومتمسكتان بمبدأهما، أما للفلسطينيين فرسالتهما بأن يواظبوا على الرباط والصلاة فيه.
رمضان الأقصى غير
تقول الحلواني، "ما كنت معتادة على القيام به خلال شهر رمضان في الأقصى، سأقوم به عند أقرب نقطة أستطيع الوصول إليها، لكن يبقى الشوق لأداء الصلاة في الأقصى والدعاء وتناول وجبة الفطور في باحاته".
في الأعوام السابقة خلال شهر رمضان، كانت هنادي الحلواني تخرج من صلاة الفجر مصطحبة ابنتها معها لتحفظ القرآن، وعند الساعة السابعة صباحًا تبدأ هي بتدريس الطلبة في مصاطب العلم حتى الساعة الثالثة عصرا، ثم تغادر بعد ذلك لبيتها تحضر وجبة الفطور، وتعود إلى الأقصى لأداء صلاة التراويح.
وأحيانا كانت تعد وجبة فطور مقدسية وتدعو متابعينها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمشاركتها في باحات الأقصى، لتجد أشخاصا لا تعرفهم لبّوا دعوتها وجاؤوا ليتعرفوا بها.
أما بعد أن أُبعدت، فهي تلقي المواعظ على النساء في مسجد عابدين القريب من منزلها، وتقدم الدروس فيه، وتخرج في أوقات الصلاة لتصلي قرب الأقصى رغم أن الطريق يعج بالناس وتمر منه المركبات، ترافقها في كل يوم عند صلاة التراويح، رفيقة الإبعاد آية أبو ناب.
آية أبو ناب التي لم تفارق الأقصى يومًا منذ طفولتها، لا سيما في شهر رمضان، فكانت تواظب على تناول وجبة الفطور مع عائلتها وصديقاتها في باحات الأقصى، تشعر اليوم بفراغ كبير لأنها اعتادت على التواجد فيه، ولكنها اليوم باتت ممنوعة فقط لأنها ترابط فيه.
تقول آية، "اشتاق لكل شيء بالأقصى، حتى شرب الماء من هناك، أجواء رمضان في الأقصى مميزة، خاصة عندما تجتمع العائلات حول وجبة الفطور في باحاته ونسمع صوت الآذان يرفع، ونصلي ومن ثم نتناول الطعام".
وبينما كانت أبو ناب تتحدث مع "قدس الإخبارية" قبيل آذان المغرب، كانت تقف على سطح خان الزيت المطل على المسجد الأقصى، في حين تستعد هي وصديقاتها لتناول وجبة الفطور، وعند حديثها عن شوقها للأقصى غالبتها الدموع.
القدس أهل التحدي
رداءٌ كتب عليه "أنا مبعد عن المسجد الأقصى" ترتديه الحلواني أثناء رباطهما قرب بوابات الأقصى، لتعرّف المارة بأن هناك مقدسيات مبعدات عن المسجد، وتنشر عبر صفحتها على موقع "الفيسبوك" بكل ما تقوم به وهي مبعدة، وتجد تفاعلًا كبيرًا، كما أن هناك العديد من نساء وفتيات القدس اللواتي يخرجن من الأقصى ليكملن الصلاة معهما على الاسفلت.
التضامن والدعم سمة يُعرف بها أهل القدس، ولعلّ هبة الأقصى الأخيرة خير دليل على ذلك، فأثناء رباطهما قرب باب حطة، يبعث لهما معدو القهوة في ذلك الشارع فنجانين أثناء رباطهما ليلا، كما أن صديقة لهنادي تدرك أنها تحب شرب المياه من الأقصى فتخرج لها بزجاجة وتصلي معها.
ما يغيظ الاحتلال ويزيدها قوة وصمودًا، تضامن الأهالي وإسنادهم لهما، فهنادي قالت للمحقق في أخر مرة، "أنت تبعد هنادي عن الأقصى، فعندما كنت داخل المسجد وباحاته كانت رسالتي محصورة بالقدس، لكن عندما أبعدتموني وصلت رسالتي لكل العالم".