في مساء يوم الأسير الفلسطيني 17 نيسان لهذا العام أضأنا الشموع في بيت الأسير محمد الطوس "أبو شادي" في قرية الجبعة قضاء الخليل، وبحضور واسع من الأسرى المحررين وعائلات الأسرى والفعاليات والمؤسسات الوطنية.
33 شمعة لـ 33 عامًا يقضيها في السجون الأسير محمد الطوس الملقب بالشهيد الحي المحكوم مدى الحياة، الشموع لم تحترق ولم تذب كجسد الأسير الذي لا زال صامدًا وصابرًا وقويًا وفتيًا ومشتعلًا في زمن السجون الأسود والأطول في التاريخ المعاصر.
33 شمعة أضاءت الليل وباحة الدار، شجرة رمان في بستان صغير بنوارها الأحمر، امتدت غصونها الخضراء وصافحت عضلات السماء، وعندما نظرنا للأعلى قرأنا أسماء 48 أسيرًا يقضون أكثر من عشرين عامًا، وجوههم الفدائية تسبح في الغيوم، صافية مبتسمة جميلة تبشر بالخلاص وبنزول المعجزات.
33 شمعة كشفت 20 رصاصة في جسد الأسير محمد الطوس أصيب بها عند اعتقاله في كمين إعدام نصب له ولزملائه الذين ارتقوا شهداء، أقاموا له العزاء، لم يتوقع أحد أنه ظل حياً، وقد نجا بأعجوبة وبإرادة ومشيئة من الله سبحانه وتعالى، استيقظ من غيبوبته ونهض من بركة الدم، وواصل الجري السريع كغزال في جبال الخليل.
33 شمعة حملتها أكف زملائه الأسرى المحررين الذين قضوا سنوات طويلة مع محمد الطوس، تقاسموا معه الألم والجوع والذكريات والحنين، وأكملوا معه عمرهم القادم بلا مؤرخين ومؤلفين، يسطرون في اشتباكهم اليومي مع السجانين مواعيدهم المقبلة، مع الحرية واليقين.
33 شمعة أضاءت غرف وأقبية السجون، هنا كريم يونس وماهر يونس ونائل البرغوثي وأحمد أبو جابر ووليد دقة وناصر أبو سرور وضياء الأغا وعلاء البازيان وسمير أبو نعمة، أسرى يقضون أكثر من ربع قرن، كسروا التوقعات الاسرائيلية، وتجاوزوا زمن الموت إلى زمن فيه حياة أكثر من الحياة نفسها.
33 شمعة في بيت محمد الطوس، تحية للحرية، مديحًا طويلًا للإنسانية والبشرية، بشرى للناس أن هذه الأرض حبلى بالقيامة والزلازل والفيضانات، غضب بشري في وجه دولة احتلال طاغية، دولة عسكرتارية وحشية أصبحت تشكل خطرًا على العدالة والقيم والثقافة الانسانية.
لم تفرج"إسرائيل" عن الأسير محمد الطوس في صفقات التبادل ولا في الدفعة الرابعة، وظلت زوجته أم شادي التي أصابتها الجلطة من فرط حنينها واشتياقها وانتظارها على بوابة السجون في غيبوبة لأكثر من عام، عيناها مفتوحتان على القادمين والعائدين من السجون، لم يعد أبو شادي، لم يفتح باب السجن، أغمضت عيناها ووعدته أن تدرب روحها على اللقاء به عندما يوقظها صوته في الآخرة.
33 شمعة في باحة بيت أبو شادي، و 33 إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، مرّ من ألف زنزانة ودخل من ألف باب، كيف عاش؟ يسأل السجانون والمحققون عن هذا الأسير المثخن جسمه بالجروح والرصاص، كيف عاش طوال هذه المدة؟ تجرع كل قنابل الغاز، وتعرض للضرب والقمع والحشر والويلات والعزل والحرمان والطمس والقهر، مازال يتحايل على الليل ليعود إلى بيته سالمًا مع الحالمين.
33 شمعة وشجرة رمان تصافح عضلات السماء، هنا في قرية الجبعة الواقفة فوق سطح البحر المتوسط، تسمع صوت الموج وصوت الماء، الاحتلال أغلق القرية من كل الجهات بالمستوطنات، نهب أراضيها وقطع أشجارها، لكنها تستمع لدقات قلب محمد الطوس وتتبع الرياح.
33 شمعة في بيت الأسير محمد الطوس الذي لا زال يدلك عضلات الحرية، يصافح عضلات السماء، وهناك في السجون النشيد الوطني الفلسطيني وليس نشيد الاستسلام والنكبات، وهناك من يدربون الذاكرة على استعادة عمرهم المسلوب وايقاظ البرق بين تلال وصخور قرية الجبعة ورجال وجباه لا تموت ولا تهان.
33 شمعة في بيت الأسير محمد الطوس، واكتشفنا أن مفتاح البيت لا زال في يد أم شادي، قد أموت ولا يفتح الباب تقول أم شادي، المفتاح جاهز لاستقبالك الآن، شتل النعنع جاهز لتصنع الشاي، الأولاد كبروا لتعانقهم وتقبلهم وتعوضهم عما مضى من غياب، الرسائل في الخزانة لتقرأ خطواتك وخطواتي في الغد.
في قرية الجبعة الكنعانية، شجرة رمان تصافح عضلات السماء، ومحمد الطوس كل ما ينقصه في الوقت وقت، وما ينقص الاحتلال ارتباك الهوية وقلق الموت، محمد الطوس يعود إلى البيت.