إحدى عشرة سنة قضت من عمر الشاب عاصم البرغوثي بعد فاصل سريع من حبسة سالفة قوامها سنتين ونصف، كان آخر عهده في هذه الحبسة أن التقى بعمه نائل، هناك في عمق عتمة الزنازين وعصف رياح صحراوية قاحلة، أبى الاحتلال إلا أن يأتي بها من خلف صحراء النقب، في سجن ريمون كان اللقاء وكان الفراق، لقاء جيل يأبى أن يسلم الراية للذي يخلفه، وخلف يصر على استلام الراية وحفظ الأمانة، ما زالت جذوة شباب لا تنضب في صدر نائل وشعلة لا يخبو أوارها، بركان هادر لا يهدأ، لا يكل ولا يمل ويصر على المضي قدما إلى حيث الحياة التي تسر الصديق وتكيد العدا.. وعاصم يسير على ذات الخطى وينشد حياة تتربع فيها الحرية والكرامة والأنفة والكبرياء.
نائل منذ عهده مع الليمونة التي تعهد سقايتها من ماء نفحة في تسعينيات القرن الماضي، كل زيارة يخرج لخنسائه قنينة ماء قرأ عليها أنشودة الحياة، وتحملها أم عمر وتأتي بها لري شجرة نائل وتنمو وتكبر بماء حررها من يد مغتصبها إلى حيث ليمونته في كوبر.. هم يسطون على مياهنا في بحيرة طبريا ويجرونها إلى صحراء النقب ونائل يأخذ الماء من النقب إلى كوبر، ليست العبرة في كمية المياه وإنما في رمزية حقنا الكامل في مياهنا، ليس المهم أن تفرض بالقوة الغاشمة ما تريد وإنما المهم أن تفرض بقوة الحق الذي تريد، نائل ينجح في ري شجرة مزروعة في كوبر من مياه فلسطينية حررها من سارقها وسافر بها بعيدا لتحط رحالها حيث يريد نائل.
هذه المرة يبعث برمزية عالية برسائل مهمة من خلال جسد وروح عالية سكنت قطعة منه، سكنت ابن أخيه وابن فكرته وابن روحه، هذه الروح تناغمت مع روحه وسافرا معا ليقطعا مسافة الحرية وليدشنا معا أعظم علاقة يعرفها البشر، يا عاصم عمك ومن معه من الأسرى قد دفعوا ثمنا باهظا، لم يدفعوا حياة عزيزة دفعة واحدة فتفيض الروح إلى بارئها بسرعة البرق كما يفعل الشهداء، عمك واحد منهم يدفع في كل لحظة من سبع وثلاثين سنة قضاها خلف قضبانهم السوداء ما هو ثقيل في الميزان وراجح في الم القهر الممزوج بأمل الحياة، لذلك اجهر بالقول يا عاصم وقل لهم إن الوطن والقضية ليست نزوة أو لعبة، قل لهم إن الوحدة فرض كفرض الصلاة وإن الانقسام لعنة أشد لعنة عرفتها الحياة، قل لهم إن غزة عندما تغرق يغرق الوطن كله وإن القدس عندما تهان يهان الوطن كله وإن كل ذرة في فلسطين غالية علينا كما الأقصى والقيامة وكما حرمة البيت الحرام.
يا عاصم قل لهم ما رأيت وعانيت من ظلم السجن والسجان، قل لهم ما يفعل هذا المحتل المجرم مع أسيراتنا ومع أطفالنا ومع مرضانا، صف لهم كيف استشهد ميسرة ابو حمدية، كيف قتلوا جعفر عوض وهم يجربون أدوية شركاتهم الطبية، قل لهم إن ما شاهدتموه من تصوير عن الطفل أحمد مناصرة لا شيء مما يجري لأطفالنا في زنازينهم بعيدا عن كاميرات التصوير، احكي لهم عما يجري في ما يسمى مشفى الرملة مع أسرانا المرضى حيث هو في الحقيقة مدفن للأحياء ومختبر تجارب ومسلخ للأجساد والأرواح.
تحدث بصراحة ووضوح عن المعزولين في منافي داخل منافي السجون، لا شيء يوصلهم بالحياة إلا رمق لمتابعة الامتهان والإذلال. يبحثون تطبيق عقوبة الإعدام وكأنهم لا يقومون بها، الفارق هو أنهم يريدون تطبيقها دفعة واحدة بينما واقع حالنا أننا نعدم في اليوم ألف مرة.
قل لقادتنا الذين لا يرون السجون إلا في شعاراتهم وخطاباتهم التي باتت لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تقنع أي أسير، قل لهم إن الأسرى لديهم إحساس عظيم بالكرامة والوطن، الأسرى من لحم ودم، ليسوا أرقاما أو بضاعة انتهت صلاحيتها للاستخدام، الأسرى لا يطالبون ببطاقة الـvip ولا يريدون مراتب ورواتب، الأسرى فقط يريدون من يعمل بكل جد وأمانة على تحريرهم ولم يعد السبيل لذلك غير معروف.
الأسرى لم يكلوا ولم يهنوا ولم يتراجعوا ولم يتنازلوا، لا يريدون سماع أخبار الانقسام ولا أخبار التنافر والتناحر، الأسرى يريدون أن نكون على مستوى القضية التي ضحت وناضلت من أجلها الآلاف المؤلفة، الأسرى يريدون منكم أن تفعلوا ما لا يريده عدوكم منكم، هذه المعادلة بكل دقة وبساطة وعمق: افعلوا ما لا يريده ويحبه لنا من احتل بلادنا، إن أحب لنا الوحدة فانقسموا، وإن أحب لنا الفرقة فتوحدوا، فهل هذه صعبة ساداتنا وكبراؤنا؟؟؟ الوقت يمضي سريعا ولا يرحم من يهمل أسراه أو مطالب أسراه، لم يعد لنا من العمر ما يحتمل الإهمال والتقصير، نبضنا من نبض قضيتنا.. لن تكون قضيتنا بخير طالما أن أسرانا في ماكينة عذاب بني صهيون التي لا ترحم أحدا.