لو أن ما جرى في نابلس يوم الثلاثاء الماضي، أو في حلحول والخليل يوم الأربعاء الماضي أو في غزة يوم الجمعة، من إطلاق جيش الاحتلال الإسرائيلي للرصاص الحي على سبعين متظاهرًا أعزلًا، قد حدث في بلد آخر كروسيا، أو الصين، أو إسبانيا لقامت قيامة الإعلام العالمي، ولتصدر الموضوع نشرات الأخبار في محطات (CNN) و"فوكس نيوز"، ولأصبح خبرا عاجلا على كل محطات الدنيا، لكن المصابين، ومنهم من استشهد، كانوا فلسطينيين والقتلة كانوا إسرائيليين، ولذلك كان التعتيم على الخبر وتجاهله سيد الموقف.
الإسرائيليون في عرف الكثير من وسائل الإعلام الأجنبية محصنون ولهم أن يقتلوا ويتصرفوا كما يريدون، لأنهم فوق القانون الدولي وفوق المساءلة، والفلسطينيون متهمون حتى لو كانوا هم الضحايا والقتلى، وكل ذلك معيب، إذ لا يجوز أن تمر مجازر الجيش الإسرائيلي ضد الشباب الفلسطيني مرور الكرام، وقد غدا واضحا أن الاحتلال يتعمد البطش بالشباب بقسوة وشراسة، لأنه يظن أن شراسة القمع والتخويف بالقتل سيروع هؤلاء الشبان البواسل.
غير أن تأثير القمع جاء معاكسًا تمامًا لما أراده المحتلون، فالضفة والقطاع أصبحتا تغليان كمرجل، وكأننا نعيش بركانا تحت الرماد قابلا للانفجار عند أي استفزاز، ولا يستطيع الجيش الإسرائيلي أن يدخل مدينة أو حي أو قرية، في أي ساعة ليلا أو نهارا، دون أن يجابه بمئات وأحيانا بآلاف الشباب، يتصدون له ويحاولون عرقلة عمليات الاعتقال التعسفية التي يقوم بها.
ورغم تفنن وسائل الإعلام الاحتلالية، ومن يناصرها بالقول أو بالصمت، في محاولة نشر مشاعر الإحباط واليأس، ورغم الغضب على الأداء السياسي للمؤسسات الفلسطينية، واستمرار ما قرر المجلس المركزي وقفه من تنسيق أمني، تتعمق في فلسطين جذور ما يمكن وصفه بانتفاضة شعبية على شكل موجات متكررة وبأساليب ووسائل متنوعة ومتعددة.
وقد عاشت الأراضي المحتلة أنشطة المقاومة المتتالية طوال عام 2015، ثم اتخذ النضال شكل انتفاضة شعبية حقيقية في القدس في تموز من عام 2017، وجاء قرار ترامب بشأن القدس في أواخر العام الماضي ليذكي موجات متتالية من المظاهرات والهبات والاشتباكات مع جنود الاحتلال.
يوم الجمعة الماضية، رأينا كيف تحولت المظاهرة أمام مستعمرة "بيت إيل" الى اشتباك شامل بين الشبان الفلسطينيين وجيش الاحتلال الذي اقتحم مدينة البيرة واستخدم كل أنواع الرصاص وقنابل الغاز والمياه العادمة، وأصاب ليس فقط العديد من المتظاهرين بالرصاص المعدني والحي بل وسبب أذى لا يوصف لمئات العائلات القاطنة في المنطقة بسبب كثافة الغاز الذي أطلق.
ولم يتورع جنود الاحتلال عن إطلاق قذائفهم على الصحفيين ومتطوعي الهلال الأحمر والإغاثة الطبية والدفاع المدني، بما في ذلك تحطيم زجاج سيارة إسعاف الإغاثة الطبية الفلسطينية بالرصاص وإصابة مسعف بداخلها.
وعلى عكس أوهام بعض المرهقين فإن فشل نهج التفاوض، لم يحبط الفلسطينيين بقدر ما أذكى الإدراك الشعبي لدى الشباب الفلسطيني بأنه " ما حك جلدك مثل ظفرك"، ولا بديل عن الاعتماد على النفس، وخوض النضال من أجل الحرية.
ما جرى في جنين يوم استشهاد الشاب أحمد جرار كان مذهلا، إذ خرج الرجال والنساء والشباب والطلاب بالآلاف في مظاهرة عفوية تضامنا مع الشهيد ابن الشهيد، وما جرى في نابلس من اندفاع آلاف الشباب لملاحقة سيارات ومدرعات الاحتلال التي دخلت المدينة، كان بمثابة استفتاء شعبي على خيار مقاومة الاحتلال، ورفض الرضوخ لعبوديته، وكم كان معبرا ما رأيناه عندما زرنا الجرحى المصابين بإصابات خطيرة في مستشفيات نابلس، إذ كتبوا على أكفهم اسم الشهيد أحمد جرار قبل أن يصابوا.
يوم الجمعة الماضي تحدى الشباب المتظاهرون ببسالة جنود الاحتلال في رام الله والبيرة وسلفيت وبيت لحم والخليل ونابلس وقطاع غزة وبيتا ومادما وبورين وبيت فوريك والمزرعة الغربية وبدرس وتقوع والعيسوية ومخيم شعفاط ونعلين وقلقيلية وكفر قدوم وبيت فجار وجنين، ومع ذلك لا يرى بعض الناس بحكم البعد عن الواقع مدى تعمق واتساع المقاومة الشعبية الفلسطينية.
هناك جيل جديد من الشباب الفلسطيني لا يقل وطنية عن أجيال الانتفاضة الأولى والثانية يتمرس في أساليب المقاومة الشعبية، ولا يقبل أن يخدع بالكلام المعسول أو الوعود الفارغة، ولن يتنازل عن حقوقه الوطنية وعلى رأسها حقه في العودة وفي عاصمته المقدسة القدس.