شبكة قدس الإخبارية

مخيم الدهيشة يودع حارسه مخضبًا بالدماء

شذى حمّاد

بيت لحم – خاص قدس الإخبارية: "أنا بستشهد.. أنا بستشهد" يئن رائد بينما يتحسس دمه النازف من صدره، ثم يتذكر تهديد ضابط الاحتلال الذي اتصل عليه قبل عدة أيام، وقال، "سأجعل والدتك تتحسر عليك".

فجر التاسع من آب 2017، طرق عنيف على الباب ينبئ أن خلفه جنود الاحتلال، مسرعاً ينهض رائد الصالحي (22 عاماً) عن الكنبة التي نام عليها في شرفة المنزل، يتسلق السور، يقفز إلى الزقاق المجاور، إلا أن رصاص الاحتلال كان أسرع..  فسقط جسد رائد في عتمة مخيم الدهيشة!.

اعتقال أم تصفية

فزعت عائلة الصالحي وسط بيتهم من هول ما يدور، تتفقد الوالدة أبناءها الستة فلا تجد نجلها رائد، صوت الرصاص مجدداً، وصوت رائد يخترق سور المنزل "آخ يما"، تستعيد الأم تحذيره لها في ذاك اليوم، "لا تبكي خلال اعتقالي حتى لو ضربوني أمامك".

تصرخ الأم: "قتلوه.. قتلوه"، وتستحث أبناءها على إنقاذ شقيقهم، "تسلقت السور أول مرة ولكني انزلقت فيما القناص يطلق النار صوبي.. رأيت حينها رائد وتأكدت أنه مصاب"، يروي بسام الصالحي.

اتخذ بسام قراره بالوصول إلى شقيقه الذي يتلوى ألماً، حتى ولو كان الثمن حياته، قفز مجدداً والرصاص ينهال عليه، ووصل قرب شقيقه المصاب.

"رائد انت منيح؟" يسأل بسام ويقترب زاحفاً نحوه محاولاً مسك يده.. يرد رائد، "أنا بستشهد"، يطلق جنود الاحتلال النار على الشقيقين، فيحذر رائد شقيقه ويطلب منه الابتعاد، "دير بالك يطخوك".

دمه النازف

دوى الرصاص مجدداً، وارتجف جسد رائد، فعلم بسام أن شقيقه ما زال في مرمى الرصاص، والمؤكد أن جنود الاحتلال لن يعتقلوه حياً، "حملته وركضت به مسافة 500 متراً حتى وصلت إلى باب المسجد وسط المخيم، انتظرت أن تمر مركبة أو أي انسان يساعدنا.. ولكن لا يوجد أحد".

عتمة الليل حجبت رؤية بسام مكان إصابات شقيقه رائد، فبقي يطمئنه "إصابتك في القدم.. لا تقلق"، ويرد رائد، "سامحني يا بسام" ويوصيه أن يتزوج.

صراخ الجنود ونبيح كلابهم ينذر باقترابهم، يقول بسام لـ قدس الإخبارية، "طرقت باب أول منزل قابلني ودخلت، أسندت رائد على الحائط ثم حضنته وكان ما زال يردد (أنا بستشهد.. سامحني)".

دم رائد النازف في أزقة المخيم، قاد قوات الاحتلال وكلابها إليه، لتقتحم المنزل الذي ألتجأ إليه الشقيقين، "عندما نبحت الكلاب على باب المنزل، تقيأ رائد الدم من فمه وألتقط أنفاسه الأخيرة.. دخل الجنود ودفعوني وأبعدوني بالقوة عبر إطلاق رصاص الصوت تجاهي".

وقف بسام يراقب شقيقه الشهيد من بعيد ملقى أرضاً وجنود الاحتلال يحيطونه وهم يصرخون به "موت.. موت"، قبل أن ينسحبوا من المكان وقد حملوه معهم حتى خرجوا من المخيم، قبل أن يتواروا عن أنظار بسام الذي عاد غارقاً بدماء شقيقه الشهيد، مطمئناً والدته أن شقيقه بخير وقد تم اعتقاله.

يعلق بسام، "اعتقلت قوات الاحتلال مجموعة كبيرة من أصدقاء رائد، وبقي يسأل لماذا تركوني؟ ولكنه كان يتوقع أن يقتحموا المخيم ويعتقلوه في أي وقت".

تشييعه في ذكرى ولادته

28 يوماً على غياب رائد، لم تستطع العائلة الاطمئنان على وضعه الصحي وزيارته، وقد بقي الأمل يسكن قلبها أن نجلها سينجو ويعود إليها، فيما اكتفت سلطات الاحتلال بالكشف أنه يتلقى العلاج في العناية المكثفة، رافضة الحديث عن أي تفاصيل أخرى حوله، لتعلن في الثالث من أيلول 2017 استشهاد رائد.

خالد الصالحي شقيق رائد يروي لـ قدس الإخبارية، أن العائلة بذلت الكثير من الجهود للوصول إلى رائد والاطمئنان على وضعه، إلا أن الاحتلال واصل المماطلة في إظهار التقارير الطبية التي توضح حالته الصحية، متذرعاً بالسرية الطبية، "طيلة هذه الأيام ونحن نعيش الخوف والقلق، والأمل في ذات الوقت.. كنا نرجو الله أن لا تكون إصابته خطيرة".

في التاسع من أيلول، وبعد أيام من المماطلة، سلم الاحتلال جثمان الشهيد رائد، بعد معاينة جثمانه، يقول خالد لـ قدس الإخبارية، "رائد أصيب بستة رصاصات أطلقت من أسلحة مختلفة، أربعة منها في الصدر، إحدى هذه الرصاصات أطلقت عليه من مسافة الصفر"، مشيراً إلى أن جنود الاحتلال أطلقوا على الشهيد رائد الرصاص الحي من سلاح M16، التوتو، والدمدم.

حارس المخيم

شيع جثمان الشهيد رائد إلى مثواه، بعد أن زينته والدته بالورد وزغردت له، تقول والدة رائد لـ قدس الإخبارية، "ما زلت أسمع صوته خلف السور يردد يما سامحيني انا بستشهد".

وتضيف، "كنت أخاف على رائد كلما سمعت باقتحام جيش الاحتلال للمخيم، كنت أشعر أنه قد يعتقل هذه المرة.. وعندما كان يبلغني بخروجه للمواجهات كنت دائماً أحاول منعه ولكنه كان يصر على الذهاب بعد أن يحضنني ويقبلني".

يقفز من سور إلى سور، ومن زقاق إلى آخر، كان يركض رائد برفقة أصدقائه خلف جنود الاحتلال في أزقة مخيم الدهيشة، مصراً على جعل الاحتلال يدفع ثمن كل اقتحام للمخيم، "كنت استيقظ على صوت الرصاص والقنابل، فأركض باحثة عن رائد في المنزل فلا أجده بالليل.. وأبقى انتظره حتى يعود".

الأم المريضة بالقلب، ما زالت تنتظر عودة رائد كل ليلة، فتترك باب المنزل مفتوحاً كما اعتاد نجلها أن يجده، "فخورة باستشهاد ابني، ولكني ما زلت غير قادرة على استيعاب فقدانه.. كان أكثر أبنائي قربا لي، كان يساعدني في أعمال البيت، كما كان يساعد كل من يطلب منه المساعدة".

لم يكتف الاحتلال باغتيال رائد، بل عاد بعد أسبوع لاعتقال شقيقه محمد (24عاما) خوفاً أن يثأر لشقيقه الذي تم تصفيته أمام ناظريه، "عندما أطلقوا النار على رائد، هددهم محمد بالانتقام له إذا مسه سوء.. فعادوا وزجوه بالاعتقال الإداري خوفا من تهديداته".

حلم لم يكتمل

مبكرا غادر رائد المدرسة، ليساعد والدته في إعالة أشقائه، إلا أن ملاحقته بين اعتقال وإصابة حرمه من مواصلة العمل، ولكنه لم يحرمه يوما من الدفاع عن المخيم بحجره، وثقافته.

يقول خالد لـ قدس الإخبارية، إن رائد أصيب برصاصة بقدمه خلال تصديه لاقتحامات المخيم، وذلك ضمن حملة الاحتلال المستمرة باستهداف شبان المخيم بأقدامهم، فيما أصيب بمرض الربو وضيق التنفس خلال اعتقاله جراء ظروف سجون الاحتلال، حيث قضى حكما بالسجن ستة شهور إثر اعتقاله من مواجهات في بلدة الخضر، قبل أن يكمل عامه الخامس عشر.

لم يستسلم رائد، وبات متطوعاً نشطاً في مؤسسة "ليلك" الشبابية في مخيم الدهيشة، "كان حلمه أن يبني 30 مكتبة خشبية صغيرة في الشارع، وقد كان يعمل على تحقيق هذا الحلم"، مبيناً أن رائد كان يخطط للسفر إلى فرنسا في شهر أيلول الجاري، إذ كان سيمثل المؤسسة برفقة أحد أصدقائه الذي تم اعتقاله، في محفل دولي.

على الكنبة التي كان يجلس عليها رائد، وعلى سريره حيث اعتاد أن ينام، تجلس قطط رائد بعد أن أدارت رأسها للحائط، تحاول العائلة مداعبتها، فترفض الاستجابة، كما ترفض الأكل من طعامها الذي أحضره لها رائد في يوم إصابته، يقول خالد، "رائد كان مرحا جداً، يحب الحياة والمزاح.. كان يحب تربية القطط وقد ترك خلفه ست قطط حزينة على فراقه ترفض الأكل واللعب كما كانت تفعل برفقته".