عندما كان حفيدي "ترستن طارق" 15 شهراً من العمر، كنت أشاهده يوما يلتقط بأصابعه قطعا من البسكويت من على الطاولة. كان ينظر في عيني. ما لاحظته وكان مثيرا بالنسبة لي هو أنه كلما كانت تفلت قطعة من بين يديه، كان ينظر رأسا إلى أسفل – وليس إلى فوق أو إلى الجوانب. بعبارة أخرى، كان قد اكتشف الجاذبية في تلك السن المبكرة، دون أن يعرف اسمها ودون أن يعرف قانونها ودون أن يسمع بنيوتن. كان قد استبطنها في تصرفاته وفي سلوكه. كان يتصرف حسب
"النظرية" بدون أي تردد أو أي شك. تعلمها من خلال تفاعله مع الحياة ومع الطبيعة عبر آلاف من المحاولات والتجارب والخبرات (هذا لا يعني أن ما أضافه نيوتن ليس مهما أو أنه ليس مثيرا، بل على العكس، هو مثير للغاية، ولكنه ليس موضوع هذه الخاطرة. ربما يكون موضوع خاطرة أخرى.) ما أود التأكيد عليه هنا هو عدم وعينا عادة للغنى الهائل لدى الأطفال، وعدم اعتباره أساسا للتعلم والبناء. فالتعليم يبدأ عادة بمواد جاهزة وبما يقرره "الخبراء والمهنيون"، بدلا من البدء بالغنى المتوفر لدى كل طفل. فكل طفل مكوّنٌ من الخبرات والتجارب والقصص والعلاقات التي يمر بها عبر آلاف التفاعلات اليومية مع محيطه، ومجدولة معا ضمن نسيج ينمو ويتغير باستمرار. من الجريمة في رأيي أن نهمل هذا "التاريخ" ونمزّق هذا النسيج، مهما كانت المكاسب التي تجعل من الطفل سلعة ذات قيمة عالية في سوق العمل، مثل الشهادات والرموز المختلفة. إذ، كما قال فلسطيني قبل ألفي عام: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
عندما بلغ "ترستن طارق" الثالثة من العمر، لاحظت أمرا آخر. لاحظت أنه قد وعى أن كلمة بسيطة وصغيرة وبريئة المظهر مثل كلمة "لا"، لها معانٍ بعدد الأشخاص الذين يتعامل معهم. وعى مثلا أنه عندما يقول أبوه "لا" فإنها تعني أمرا مختلفا عما تعنيه عندما أستعملها أنا أو جدّته أو أمه. استبطن "ترستن طارق" المعاني المتعددة لكلمة "لا" وكان يتصرف حسب تلك المعرفة من حيث تقرُّبه من الشخص المناسب، بناء على حاجته في تلك اللحظة. إنني أدعو القارئ أن يحاول ملاحظة التنوع الهائل في معاني الكلمات التي يستعملها، لإدراك الغنى الهائل في الحياة وحماية نفسه من دكتاتورية اللغة ووحدانية المعنى عندما تفقد الكلمات علاقتها بحياة الذين يستعملونها. فهذا التنوع وهذه العلاقة إذ يختفيان عندما يدخل الطفل عالم التعليم وتصبح معاني الكلمات ثابتة وجامدة و"علمية" وميتة، وتصل إلى حدّ اللامعقول في الامتحانات العامة حيث يعطي عشرات الآلاف من الطلبة نفس الإجابة لكل سؤال، دون أن يلاحظ أحد مدى الدمار الذي يعكسه ذلك في "العالم الداخلي" للطالب/ة. تكون عملية إعدام التنوع قد تمّت، وكوفئ كل من ساهم فيها.
تشير الخبرتان مع حفيدي، من بين مئات الخبرات عبر فترة طويلة، إلى معنى "للتعلم" تبلور في ذهني، أسوق فيما يلي بعض معالمه:
أولا، التعلم هو عملية مثل عملية الهضم في جسم الإنسان. فما يهضمه الجسم يصبح جزءا عضويا من الجسم ولا يمكن تمييزه بشكل منفصل عنه. أما ما لا يهضمه الجسم فيخرج كفضلات. فإذا أكل طفل حبة عنب، مثلا، وخرجت منه كحبة عنب، نقول أنه بلعها ولكنه لم يهضمها. بعبارة أخرى، إما أن يصبح الطعام جزءا من جسم الإنسان أو يُصرف كفضلات. وإذا أصبح جزءا من الجسم فإنه يصبح من الصعب تمييزه كجزء منفصل، إذ يصبح جزءا عضويا من الجسم.
وينطبق هذا في رأيي على موضوع المعرفة. مثلا، لم يعرف حفيدي الجاذبية بمعنى أنه كان باستطاعته أن يجيب لفظياً على أسئلتنا حولها (كما نقيس الأمور في المدارس والجامعات)، وإنما عرفها بمعنى أنه "هضمها". لقد أصبحت جزءا من وعيه وسلوكه وليس من السهل أن نمتحنه فيها حسب الطرق السائدة. كما أنه ليس ممكنا أن ينساها. كذلك الحال بالنسبة لوعيه لوجود معان متعددة لكلمة "لا". من الغريب أننا غالبا ما نستعمل كلمة "هضم" للدلالة على فهم حقيقي، ولكننا لسبب ما، لا نأخذ هذا التشبيه في عملنا وتعاملنا في مجال التعليم موضع الجد.
من هنا، فإن أفضل ما يمكن أن تقيسه الامتحانات هو "فضلات" المعرفة، أي مدى بلع الطالب/ة لمعلومات معينة وليس مدى هضمه لها. فهضم الطعام يظهر في صحة الطفل ومدى طاقته على العمل. كذلك الحال بالنسبة ل"هضم" المعرفة، إذ أنه من الصعب جدا أن نقيسها عن طريق امتحانات، بل عن طريق تعامل الطفل مع محيطه. فالمعلومات التي يمكن قياسها في الامتحانات هي المعلومات التي لم تُهضم، أي التي دخلت ذاكرة الطفل وخرجت كما دخلت، تماما مثل حبة العنب. وليس من المعقول أن نسمي هذا فهما أو هضما. من هذا المنطلق، فإن الامتحانات هي عمليات تزوير علنية للمعرفة! بعبارة أخرى، إما أن تصبح المعلومات جزءا من الصعب تمييزه في معرفة الشخص أو أن تصبح فضلات يمكن قياسها. وفي الحالة الثانية، من الأفضل أن يتخلص منها الشخص بأسرع وقت ممكن، لأنها إذا بقيت دون هضم فإنها تسبب عسرا وأمراضا. ولحسن الحظ أن معظم المعلومات التي يحفظها الطالب من أجل الامتحان ينساها بعد الامتحان! من الضروري أن ننظر إلى عملية النسيان هذه على أنها أمر صحي وليس مشكلة، كما ينظر إليها التربويون عادة.
ثانيا، أفضل أنواع التعلم يحدث بشكل طبيعي، في سياق حقيقي وجو صحي، دون مناهج ودون امتحانات ودون علامات. أما التعلم الذي يرتبط فقط بألفاظ ولا ينبع من تفاعلات مع المحيط الحقيقي فهو تعلم يخدش السطح في أفضل الأحوال.
ثالثا، بما أن المعاني تُكتسَب من خلال آلاف التفاعلات مع المحيط، فإن الأمر المنطقي الذي يؤدي إلى تعلّم هو تأمين ظروف وأوضاع حقيقية ومتنوعة، يتفاعل عبرها الطفل مع الحياة ومع الآخرين ومع الطبيعة قدر الإمكان. فالمعاني ليست موجودة في المعاجم والموسوعات وإنما في علاقة الناس مع محيطهم. أما استبدال كلمة بكلمات أخرى (كما هو الحال في المعاجم والموسوعات) فلا معنى لها إلا إذا ارتبطت الكلمات الجديدة بصور في ذهن السامع أو القارئ ناتجة عن خبرات عاشها. أما إذا لم ترتبط الألفاظ الجديدة بخبرات أو صور ذهنية عاشها الشخص، فإنها لا تقول شيئا. لا أستطيع أن أفهم كلمات قالها المسيح مثلا قبل ألفي عام إلا عن طريق ربطها بأمور وخبرات مررت بها بنفسي. لقد وعى الإسلام هذه الحقيقة، أي أن معاني الكلمات تكمن في العمل والتفاعل مع المحيط والتأمل فيه وليس في الألفاظ، في التأكيد على أن الدين هو المعاملة، وفي التأكيد على أهمية الاجتهاد في فهم معاني الكلمات والعبارات.