ربحنا جولة، والحرب ما تزال مفتوحة. لا أظن عاقلاً بين المرابطين عند باب الأسباط وفي عموم القدس كان يتوهم بأنه يخوض معركة تحرير الأقصى، بل كان الجميع يدرك بأن المعركة كانت لحماية الأقصى، لمنع تهويده وحماية هويته الإسلامية حتى يحين موعد التحرير، كانت جولةً من جولات الصمود الطويلة، لكنها في النهاية حاكت في خيال كل فلسطيني وكل عربي وكل مسلم مشهداً مهيباً يتطلعون إليه، مشهد فتحٍ قادمٍ مبين.
نحاول هنا أن نتوقف أولاً عند معاني ودلالات هذا النصر، ثم ننتقل إلى الرد الصهيوني المتوقع عليه -وقد بدأ- ثم ننتقل إلى استثمار هذا النصر، وهذا يتطلب الصبر على طول السطور لصعوبة اختصارها.
دلالات النصر:
1- لعل الدلالة الأخطر والأبعد أثراً لهذا النصر كان المشهد؛ فمشهد دخول الجماهير المقدسية حاكى مشهد الفتح الذي يتشوق إليه الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي، لقد ألهب هذا المشهد خيال تلك الجماهير، ودق في وعيها ناقوساً بأن ذاك المشهد قريب وممكن، وليس مستحيلاً كما حاولت الدولة الصهيونية وراعيها الأمريكي والغربي أن يزرعوا في أذهاننا على مدى سنواتٍ، مستفيدين من عجزٍ عربي مزمن.
2- لقد أوضحت تجربة هبة باب الأسباط معادلة النصر بوضوحٍ واختصار: عملٌ مقاوم مسلح ومؤثر، التفافٌ جماهيري وموقفٌ موحّد يرفض المساومة والحلول الوسط على مطالبه، وخارجٌ عربي شعبي متفاعل وداعم. مع بداية الأزمة انتشر الحديث حول الانشغال والوهن العربي، إلا أن هذا لم يمنع المقدسيين من الانتصار، ومن إجبار الصهاينة على التراجع والانصياع للمطالب كما حددتها الجماهير بلا تغيير ولا التفافٍ، بل فشل المحتل في تكريس حقيقةٍ واحدة مثل إغلاق باب حطة أو باب المطهرة كما كان يحلم. هذا ينبغي أن يكرس في وعينا أن ميزان القوى لم يعد يسمح لعدونا بالتوسع وتحقيق الإنجازات، وأن الصهاينة يرتعبون من فكرة انتفاضة شعبية ثالثة في الضفة والقدس، وبأن زمن التراجعات الصهيونية مستمر، لكن علينا أن ندخله بفعلٍ جماهيري.
3- إذا بنينا على ذلك، فيمكن القول إن هبة باب الأسباط على مدى أيامها الأربعة عشر شكلت التجربة الأولى للانتفاضة المقبلة، بعنفوان مجتمعي ومشاركة جماهيرية، وعملٍ مسلحٍ فردي أو مكونٍ من مجموعات صغيرة غير مؤطرة تنظيمياً، ينتقي أهدافه بما يتوافق مع أهداف الانتفاضة، وتفاعلٍ خارجي شعبي، وغيابٍ أو شبه غياب عربي رسمي عن المشهد لا يمنع النصر، رغم أن نتائجها ستكون أفضل وأسرع لو توفر الدعم العربي الرسمي. إذا كان الحديث عن دفع الاستعمار الصهيوني إلى الانسحاب من الضفة الغربية دون شروط يراه البعض حلماً، فما حصل في الأقصى أثبت أنه ممكن. في الواقع كان قطاع من النخبة يرى أن ما حصل في هبة باب الأسباط حلم لا يمكن تحقيقه، لكن هؤلاء كانوا بعيدين حينها عن إدراك عنفوان الشعب وطاقاته وتحفزه للمواجهة.
4- يخشى العقل أحياناً أن يقرأ الدلالات الكبيرة خوفاً من أن يبالغ في التفاؤل، فنحن أبناء أمة اعتادت الهزائم والنكسات منذ زمن، ورغم أنها ذاقت الانتصار عدة مرات في العقدين الأخيرين، إلا أنها تخشى الاعتراف بذلك. منذ اختراع السلاح النووي، دخل إلى دراسة العلوم السياسية مصطلع "الردع النووي"، الذي يعني بأن القوة النووية محصنة من الهزيمة من القوى غير النووية لكونها تملك خيار إفنائها، ومصطلح "الردع المتبادل" حين تحجم قوتان نوييتان عن الدخول في حرب خوفاً من إفناء بعضهما البعض. ظن القادة الصهاينة بأنهم ضمنوا البقاء باستحواذهم على السلاح النووي في سبعينات القرن العشرين، لكن ما ثبت على مدى الانسحابات المتتالية من جنوب لبنان وبرّ غزة، والحروب المتتالية بلا حسم في لبنان وغزة، والتراجع اليوم في الأقصى؛ هو أن هناك معادلة جديدة تصنع، فالسلاح النووي هنا لا يصنع نصراً ولا يمنع هزيمةً، السلاح النووي عديم الفائدة أمام مقاومات الشعوب، وإن كان مجدياً في تحييد الدول وجيوشها، ومن هذه المعادلة يمكن للفلسطينيين والجماهير الشعبية العربية أن تشتق معادلة نصرها القادم على القوة النووية. إذا كان الصهاينة سموا الردع الذي استحدثوه بالدمار في حرب 2006 بمصطلح عسكري أسموه "عقيدة الضاحية"، فحري بنا اليوم أن ندرك الردع الذي صنعناه بـ "عقيدة باب الأسباط".
5- على مستوى تهويد المسجد الأقصى، شكلت هبة باب الأسباط كسراً لموجة التهويد المتصاعد منذ 2003؛ كيف؟ لقد كانت أجندة التهويد تتصاعد نحو التقسيم الزماني والمكاني للأقصى وتظن أنها قادرة على تحقيقه وتخطيه ما دامت مدعومةً على المستوى السياسي في الحكومة والكنيست، لكنها اصطدمت هنا بالحقيقة وجهاً لوجه، فهي أعجز من أن تفرض هذه التغييرات في مواجهة المقدّس المحمي بالجماهير، وجاء فرض التراجع من الأجهزة الامنية والجيش التي رأت أن مضي الحكومة في طريقها للتهويد سوف يجلب أثراً مدمراً على الدولة. باختصار هذا عنى أن سقف ما يمكن للتهويد أن يبلغه هو ما نراه اليوم؛ اقتحامات واستفزاز ومحاولات منعٍ وإغلاق.
الرد الصهيوني:
أمام "فداحة" معاني هذا النصر، فقد كان لا بد للرد الصهيوني أن يبدأ من اللحظة الأولى، وهو رد يمكن قراءة تركيزه في 3 اتجاهات: أولاً في إفساد مشهد النصر ومحاولة إقناع الجماهير بأنه مفرغ من المعنى، وهذه فشل في محاولاته الأولى لها في باب حطة والمطهرة، ثانياً محاولة منع استثمار النصر وتطوير معادلة الردع الجماهيري في اتجاهاتٍ جديدة، وثالثاً بمحاولة تفكيك التوافق الجماهيري الذي تشكل بإعادة الاستثمار في عناصر الصراع والتناقضات بين المقدسيين، واستحداث مسافة شكٍّ ونفعيةٍ بين النخب والجماهير بإفساد النخبة، وبالذات المرجعيات الدينية التي قادت هذه الهبة.
والرد الصهيوني يحتاج إلى وقفةٍ لاحقة قد لا يتسع لها المقام هنا، إلا أن ما يهمنا هنا هو التركيز على الاقتحامات المتتالية، ومحاولات تضخيمها تحت بند منع استثمار النصر. ما يحاول الصهاينة قوله باقتحام أكثر من ألف شخص اليوم-في الغالب نفس المستوطنين دخلوا على دفعات بشكل متكرر لصناعة فقاعة عددية- هو القول بأن الأمور عادت تماماً إلى ما قبل 14/ 7، ليس بفك البوابات فقط بل بالاقتحامات ومحاولات التقسيم والتهويد وزخمها المتصاعد، وكأن المعادلة التي صنعت نصر 27/7 تفككت وانتهى مفعولها، وهذا ما لا ينبغي أن نسمح به، لأن أي نصرٍ يغير في معادلة اللعبة وليس في وقائع محددة على الأرض فقط.
استثمار الردع الشعبي:
من شأن الاكتفاء بالنصر الذي تحقق والعودة لممارسة الحياة تماماً كما كانت قبله أن تتيح للمستعمر الصهيوني الفسحة المناسبة لتفكيك عناصره، ومنع تكراره؛ والحفاظ على إمكانية عودة هذا الردع تتطلب المضي به إلى الأمام، ومحاصرة الفعل الصهيوني في القدس بشكلٍ يضعه في موضعٍ متراجعٍ يبحث عن مخارج بشكلٍ متكرر، وهذه استراتيجية يمكن أن تتسع إلى كثيرٍ من مجالات الحياة، وليس في المسجد الأقصى فقط.
أما في الأقصى، فطريقها المباشر هو إفشال صورة النصر في أيام الأعياد الكبرى. يرتكز متطرفو اليهود على أعياد يهودية محددة لدفع أجندة التهويد قدماً في كل عام، وهذه الأعياد بشكلٍ أساس هي ثلاثة: ذكرى احتلالهم لشرقي القدس، وتأتي نهاية شهر 5 أو بداية 6 من كل عام، وذكرى "خراب المعبد" وتأتي نهاية 7 أو خلال شهر 8 من كل عام، وعيد العرش الذي تتعدد أيامه لكن ذروته تتراوح بين نهاية شهر 9 وشهر 10 من كل عام. الطريق إلى إفشال أجندة الاقتحام الجماعي يمر بإفشال هذه الذروات الثلاث، بتحويل هذه الأيام الثلاثة بعينها إلى مواسم احتفالٍ ورباطٍ في الأقصى يجتمع بها الناس بعشرات الآلاف، فيصبح الاقتحام في العيد اليهودي مستحيلاً، وتمسي أجندة الاقتحام بأسرها مفرغةً من المعنى، إذ ما قيمته إن كان يفشل في تحقيق محتواه الديني المزعوم.
إن هذه الاستراتيجية تقنن استخدام الحشد الجماهيري إلى ثلاثة أو أربعة أيامٍ واضحةٍ وممكنة، وتُفشل استراتيجية الاستنزاف الصهيوني التي تتعمد الاقتحام بسبب وبلا سبب بشكلٍ متكرر، كما أنها تستلهم تجربة موسم النبي موسى الذي استحدث بعد الفتح الصلاحي لمنع الحجاج المسيحيين الغربيين من استخدام موسم حجهم في عيد الفصح في احتلال القدس، وتحول لاحقاً إلى عنوان من عناوين الترابط المجتمعي الإسلامي المسيحي. فلنستعدّ إذن لذروتنا التالية، أيام 5-6 من شهر 10 2017، ولنكن على الموعد.