رام الله – خاص قدس الإخبارية: في صير الباب تتقلب عيناه تراقب والدته وأشقاءه.. يتبسم ويتلمس لحيته، ويردد وذاته: سأشتاق لكم بحجم ما ستشتاقون لي.
تلتقطه عيناها، فتنادي عليه: ما بك يا عمر؟
يرد: لا شيء أردت الاطمئنان عليك قبل الذهاب للصلاة
21 تموز وبعد أن خطط عمر العبد (19) عاما الخروج من منزله في قرية كوبر للمشاركة في مسيرة ستنظم وسط رام الله نصرة للمسجد الأقصى، يقرر أن يبقى قرب والدته قبل أن يودعها عصرا.
تحت فيء الشجرة، جلس عمر يقلب فيديوهات قمع الاحتلال المعتصمين على أبواب المسجد الأقصى، ينادي والدته مجددا، لتشاهد واياه فيديو ضرب جنود الاحتلال أحد الشبان خلال أدائه الصلاة.
يقلب الفيديوهات الأخرى التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعيد مجددا مشاهدة تهريب جثمان الشهيد محمد أبو غنام خوفا من احتجازه من قبل قوات الاحتلال.
تعلق والدته خلال حديثها لمراسلة "قدس الإخبارية"، "أستفز كثيرا من فيديو ضرب أحد الشبان أثناء صلاته، ولكن أكثر ما أغضبه الفيديو الذي يوثق تهريب جثمان الشهيد ودمه ما زال ينزف".
للمرة الثانية استحم عمر، تعطر وتهندم، ثم طلب من والدته استبدال مصحفه الذي فقد إحدى صفحاته، ليترك هاتفه قليلا ويقرأ بمصحفه، وقبل أن يغادر يهمس لوالدته: "قد أتأخر اليوم، أريد الخروج مع أصدقائي في يوم عطلتي، لا تقلقي علي".
إلى حفل زفاف أحد الأصدقاء في القرية المجاورة ذهبت ابتسام وزوجها عبد الجليل، ليردهم اتصال من أحد الأقارب بعد وقت قصير: "أين عمر؟ لقد ترك وصية على صفحته في فيسبوك واختفى".
صفارات الإنذار تدوي
باحثان عن نجليهما السابع بين أبنائهم الثمانية، عاد عبد الجليل وابتسام، ليجدا أهالي القرية بدأوا بالتوافد إلى منزلهم باحثين عن كاتب الوصية، بينما صفارات الإنذار تدوي في مستوطنة حلميش.
جلست ابتسام بهدوء غير معتاد أمام التلفاز، ولكن هذه المرة ترتقب خبرا عن نجلها، بعد أن أجبرت أحد أبنائها على قراءة وصية شقيقه بصوت عال، "الله يحميك يما، الله يرضى عليك يما"، تردد ابتسام...
أخبار متتابعة يتداولها الإعلام، ليثبت النبأ: عملية فدائية نوعية تخترق أمن مستوطنة حلميش. ويبدأ الإعلام بعد القتلى، الذين ارتفعوا لثلاثة، أما المنفذ فما زال مجهول الهوية.
لم يمض وقت طويل، ولكن مر دهر على ابتسام، قبل أن يُكتب على الشريط الإخباري: منفذ عملية حلميش هو عمر عبد الجليل العبد من قرية كوبر.
"عمر عيني وقلبي، لا أتوقف عن الدعاء له والرضى عليه (..) عندما يخرج يقبلني وعندما يعود يقبلني، يحبه الجميع كما أحبه" تقول ابتسام لـ قدس الإخبارية، قبل يوم واحد من اعتقالها من قبل قوات الاحتلال.
أحلام عمر أم المسجد الأقصى؟
عمر خيَّال كوبر، كان يعشق ركوب الخيل لساعات، كما اعتاد على ارتياد النادي الرياضي كل مساء، إلا أنه قبل أيام من تنفيذ عمليته، قرر أن يريح جسده الذي سيمشي طويلا وصولا إلى المستوطنة.
تعلق والدته،"كان يحلم أن يكمل تعليمه الجامعي، وأن يذهب إلى العمرة .. كان يحلم أن يبني منزلا ويتزوج وينشأ أسرة".
بينما يقول عبد الجليل لـ قدس الإخبارية، "عمر كان خلوقا جدا، كان يحب الصغار وقد تعلق به كل أطفال العائلة، كان متلزما بصلاته وصومه (..) كما كان حريصا على اتقان عمله واتمامه على أكمل صورة".
ويضيف، "كنت أقول أن لدينا أربعة عمر، هم: عمر بن الخطاب، عمر بن عبد العزيز، عمر المختار .. وعمر العبد (..) أفتخر بابني كنت وسأبقى".
لم يكن تنفيذ عمر لعمليته الفدائية وليد اللحظة، فمنذ 20 تموز زار عماته وخالاته وشقيقاته، وفي اليوم التالي زار إحدى شقيقاته، وبعدما خرج من منزلها، التفت إليها مجددا، وقال لها، "اهتمي بنفسك وأطفالك".
يروي عبد الجليل لـ قدس الإخبارية، "علمت أن عمر نشر وصية على فيسبوك، حاولنا الاتصال به كثيرا ولكنه لم يجب (..) لم أصدق وذهبت للقرية المجاورة أبحث عنه وما أن عدت حتى سمعت صفارات الإنذار تدوي في "حلميش"، قبل أن يصل خبر أن المنفذ هو ابني".
ويضيف، "ما يرتكبه الاحتلال بحق المسجد الأقصى هو ما دفع عمر لتنفيذ عمليته، وما جرى في ذات اليوم من تنفيذه العملية من اعتداءات وضرب المصلين هو ما فجر الغضب فيه، فالاحتلال وحده هو من يتحمل كل ما يحصل، وهو من يتحمل قتلى حلميش وليس ابني، وحتى جرح ابني فنتنياهو من يتحمله".
خلال ربع ساعة، اخترق عمر أمن مستوطنة حلميش ونفذ عمليته الفدائية قبل أن يطلق عليه النار ويصاب بجروح متوسطة، يقول عبد الجليل، "المسجد الأقصى أغلى من ابني ومن كل شيء، وإذا بقي الاحتلال ينتهك حرمته فأنا وأبنائي وبيتي فداء للأقصى".
لن يهدم المنزل
لم يترك أهالي قرية كوبر عائلة العبد مذ لحظة العثور على وصية عمر على فيسبوك، فها هم يرابطون في المنزل الذي بات مهددا بالهدم، كما يرابطون على مداخل القرية ويحرسونها ليتصدوا لاقتحام قوات الاحتلال بحجارتهم وزجاجتهم الحارقة.
وليس غريبا على القرية التي حرصت بالماضي على إعادة بناء منازل الفدائيين التي هدمها الاحتلال، أن تعيد الكرة مجددا، فها هو أحدهم يتبرع بمنزله لحين بناء منزل جديد، وآخر يتبرع بقطعة أرض، فيما بدأ الأهالي بالتخطيط لتشكيل لجنة تتابع شؤون العائلة وترتب لبناء منزلها سريعا، ما أن تصله آليات الاحتلال وتهدمه.
يعلق عبد الجليل، "لن يعز علي البيت بعد ابني عمر، فكل ما على هذه الأرض لا يسوى ظفرا من أظافر ابني عمر(..) فداء ابني يهون كل شيء".
وقد سبق للاحتلال أن هدم منزل عبد الجليل عام ١٩٨٧ بعد تنفيذ شبان من القرية عملية فدائية استهدفت حافلة للمستوطنين، حيث فرضت سلطات الاحتلال إجراءات ردع وقمع تخللها هدم للمنازل، كان منزل عبد الجليل واحدا منها.
رئيس مجلس قروي كوبر عزة بدوان لـ قدس الإخبارية، أن أهالي القرية حرصوا على تأمين منزل لعائلة العبد في حال هدمت قوات الاحتلال منزلها، "لن نسمح بأن تنام العائلة في العراء ساعة واحدة، كما تم تأمين قطعة أرض سيتم بناء منزل للعائلة عليها إذا هُدم منزلها".
في ذات السياق، صعد الاحتلال من قمع وردع أهالي القرية البالغ تعدادهم ستة آلاف نسمة، إثر عملية حلميش من خلال الاقتحامات المتواصلة ومداهمة المنازل وإغلاق مداخل القرية بالسواتر الترابية.
وأوضح بدوان أن أهالي القرية لم يقفوا مكتوفي الأيدي، واندلعت أعنف المواجهات في القرية تصديا لاعتداءات قوات الاحتلال، كما آنضم إليها القريتان المجاورتان أبو شخيدم والمزرعة الغربية، "نرفض إجراءات الاحتلال وكل ما يقوم به، وهو ما دفع أهالي القرية لفتح الطرق كلما أغلقتها قوات الاحتلال(..) ونحن نستعد للتصدي لأكثر من ذلك".
وتابع، "أهالي كوبر لا يشعرون بالخوف والقلق من إجراءات الاحتلال، فكل هذا لا يهمنا، فنحن نعيش حالة تحدي مع الاحتلال منذ سنوات".