رام الله - خاص قُدس الإخبارية: في مكانين منفصلين، كل شيء مختلف حتى طقوس الفرح، في أحدهما كان هو حاضر، وفي الآخر غائب. لم يستطع أن يسمع أصوات المفرقعات وزغاريد النسوة، أو حتى أن يحضر أجواء الفرحة الأولى التي تدخل منزله منذ 14 عاما ويشارك عائلته بها، ففي سجن جلبوع حيث يقبع لا تتعدى أجواء الفرح سوى أن يمسح الأسرى دموعه ويباركون نجاح ابنته ويعدون الحلوى بهذه المناسبة.
سنوات من الجد والاجتهاد، كانت تسعى خلالها تالا ابنة الأسير عبدالله البرغوثي -المحكوم 67 مؤبدا-، أن تُدخل الفرحة على قلب والدها وتجعله فخورا بها، فثابرت حتى وصلت للثانوية العامة وحصلت على معدل 90.6 بالفرع الأدبي في نتائج امتحان "انجاز".
تقول تالا لـ قدس الإخبارية، "كنت أتمنى لو أن والدي معي اليوم، يخفف من حدة التوتر الذي كنت أعيشه قبل إعلان النتائج، وأن يكون هو من يخبرني بالنتيجة، ويضمني إلى صدره ويطبع قبلة على وجنتي ويبارك لي بنجاحي، إنه لمن الصعب أن تبحث عن شخص بين الحضور كنت تتمناه معك ولا تجده".
تالا كانت برفقة والدها عندما تم اعتقاله عام 2003، إذ كانت تبلغ من العمر 3 سنوات، ومنذ تلك اللحظة حتى اليوم حرم الاحتلال عبدالله أن يشاهد أبناءه يكبرون عاما تلو العام، فكانت صورهم في كل مرحلة عمرية هي السبيل الوحيد لرؤيتهم إلى جانب الزيارة المتقطعة له بسبب عزله من قبل إدارة سجون الاحتلال.
عبدالله البرغوثي ورغم تواجده بالأسر، إلا أنه كان يحاول دعم وتشجيع أولاده الثلاثة: تالا (17 عاما)، أسامة (15 عاما)، وصفاء (14 عاما)، موصيا إياهم خلال زيارتهم له الاهتمام بدراستهم لأن العلم هو سلاح أيضا يحارب به الفلسطيني الاحتلال.
كانت أخر زيارة لتالا قبل نحو سنة ونصف، أي قبل بدء السنة الدراسية الأخيرة لها، خلالها أوصاها بأن تثابر وتقدّم أفضل ما لديها، إضافة إلى أنه طيلة فترة دراستها كان يبعث لها برسائل عن طريق محاميته، يقدم فيها الدعم المعنوي والنفسي لها، واعدا إياها بأن يحقق لها أي شيء تطلبه بعد نجاحها.
مذياع يزف له الفرحة!
بعد ساعات قليلة من إعلان النتائج، كان المذياع هو الوسيلة التي عرف الأسير عبدالله نتيجة ابنته من خلاله، إذ كانت عائلته وعن طريق محاميته وعائلات الأسرى في سجن جلبوع ترسل له برسائل عن كل ما يتعلق بتالا وامتحان "الانجاز"، فكانت تبلّغه بموعد الامتحانات، وأداء تالا، وموعد النتائج.
"الإنسان بلا تعليم لا يصل إلى هدفه، وفي فلسطين العلم والشهادة هما سلاح يحارب فيه الفلسطيني عدوه"، في كل زيارة له كان عبدالله يحدثهم عن التعليم، ويسألهم عن أدائهم ونتيجتهم في الامتحانات، إذ كان يحرص على أن يشعر أبناءه بأنه يتابع كل ما يتعلق بهم.
تنوي تالا أن تدرس تخصص المحاسبة في جامعة بيرزيت، وعبر شبكة قدس الإخبارية وجهت رسالة لوالدها قالت فيها، "أشكرك والدي على الدعم الذي قدمته لي طيلة تلك السنوات، وكم تمنيت أن تكون معي وتشاركنا هذه الفرحة، رغم أنها كانت منقوصة، وبمشيئة الله سوف تكتمل فرحتنا بتحررك من الأسر قريبا".
فائدة البرغوثي، والدة تالا التي عقب اعتقال زوجها وحتى العام الماضي، تمكنت من زيارته فقط ثلاث مرات، كانت حريصة على أن توثق بالصور كل مرحلة يمر بها أطفالها، وترسلها لزوجها في زيارات الأسر.
تقول فائدة البرغوثي:" كان عمر تالا ثلاث سنوات عندما اعتقل الاحتلال عبدالله، لم يرها عندما دخلت الروضة، ولم يكن حاضرا ليرى ابنته الكبرى تكبر عاما تلو عام".
وتضيف أربعة عشر عاما كنت أنا المسؤولة عن تربية أبنائي، كنت بحاجة ماسة لوجود عبدالله لجانبي وإلى جانب أطفالي، كل طفل من حقه أن يكون والده معه في نشأته يفرح لهم وفيهم، واليوم أنا نسيت تعب كل تلك السنوات بعد أن تكلل جهدي أنا وعبدالله بنجاح حبيبته تالا، فرحة تدخل بيتنا لأول مرة منذ اعتقال زوجي.
الأسير عبدالله كان يقول لزوجته، "ما أن تعلن نتيجة تالا، أريدها أن تتعلم القيادة سأشتري لها سيارة وأريدها أن تكمل تعليمها بالجامعة في التخصص الذي تريده"، ليس هذا فحسب فالأسير عبدالله كان حريصا أن تدخل الفرحة والبهجة منزله رغم غيابه عنهم، فاوصى زوجته بأن تنظم حفلة لتالا عقب نجاحها بالتوجيهي.
تالا وفي حفل تخرجها من مدرسة بنات قاسم الريماوي قبل نحو ثلاثة أشهر، ألقت كلمة وجهتها لوالدها قالت فيها:"لقد تخرجتُ اليوم يا أبي، آه لو تعلمَ كم من وقتٍ قضيتُ وأنا أبحثُ عنكَ بين الحضور، رأيتُ ضحكاتِ الآباءِ كلهِم إلا ضحكتكِ أنت، وكأنني لم أرى ضحكةً في الوجودِ كلّه.
كلُ الفتياتِ غمرهنَّ آباءهنَّ، إلا أنا يا أبي؛ غمرني الشوقُ اليك، والغصةُ لغيابك.. لكنني قويةٌ صامدةٌ بك يا أبي، فأنت من قهرت سجانك بأمعائك الخاوية.. وأنت الذي منحت هذا الشعب كرامة مقدارها عدد سنوات حكمك "67 مؤبدا"..
أعدك أن أكمل نجاحي الذي بدأت به يا أبي؛ وأعدك أن أحافظ على هذا المقعد الفارغ في كل فرحة من فرحات حياتي، فهو مليء بالحب والحنين لك أنت".