شبكة قدس الإخبارية

فدائيو "وعد البراق".. تسحروا في الأقصى وأفطروا في السماء

ديالا الريماوي

رام الله- خاص قُدس الإخبارية: رجال صدقوا ما عاهدوا الله والوطن عليه، بالدفاع عن الأرض والمقاومة حتى أخر نفس، فكانوا قناديل تضيء سماء القدس في عتمتها.

في طريقهم من المسجد الأقصى إلى باب العامود، نفس الدرب الذي سلكه من سبقوهم، سار ثلاثتهم صامتين يتأملون كل ما حولهم للمرة الأخيرة، يحثون الخطى، وقبل أن يرفع أذان المغرب في يوم الجمعة السادس عشر من الشهر الحالي، خرج الشبان الثلاثة: أسامة عطا، عادل عنكوش، وبراء عطا، من المسجد الأقصى متجهين إلى منطقة باب العامود، وهناك أخرج ثلاثتهم السكاكين وسلاح "الكارلو"، وبدأوا بمهاجمة جنود الاحتلال والمستوطنين.

العملية التي فشل جهاز مخابرات الاحتلال "الشاباك" في التنبؤ بها قبل وقوعها وإحباطها، كانت ستوقع عددا أكبر من القتلى لو لم يحدث خللا في سلاح الكارلو، فيما أدت العملية التي نفذها الشبان الثلاثة لمقتل مجندة بجيش الاحتلال، وإصابة 4 بين جنود ومستوطنين، فيما ارتقى الفدائيون الثلاثة صائمين محتسبين.

فدائيو البلدة

في بلدة دير أبو مشعل بمحافظة رام الله، كانت العائلات تستعد لتناول الفطور، وما أن بدأت وسائل الإعلام بتداول خبر تنفيذ ثلاثة شبان من البلدة عملية في القدس المحتلة، حتى بدأ الجميع بمتابعة الأخبار والاتصال بأهالي البلدة الذين كانوا موجدين في المدينة لمعرفة هوية المنفذين.

بعد أن أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن هوية الشهداء، تفاجئ أهالي البلدة بالعملية التي أوجعت الاحتلال ونفذها الشبان الثلاثة متسائلين "كيف استطاع أولئك الشبان أن يخططوا بسرية تامة لعمليتهم تلك؟".

عادل حسن عنكوش (18 عاما) يدرس التمديدات الصحية في معهد بمدينة أريحا، أنهى سنة دراسية وحصل على المرتبة الأولى في دفعته، ما يميزه أنه كان شابا خلوقا محبوبا، ملتزما دينيا، بارا لوالديه، يساعد والده المريض ويهتم به كثيرا، لذلك كان هو الأقرب لقلبه.

أسامة أحمد عطا (19 عاما) اتسم منذ صغره بالهدوء، والالتزام الديني، كما كان محبوبا بين أفراد عائلته وبلدته، اعتقل قبل نحو ثلاثة أعوام ونصف، كان في حينها يدرس في الفرع الصناعي "النجارة"، وحكم عليه بالسجن مدة عام بتهمة ضرب الحجارة والزجاجات الحارقة.

تقول والدة الشهيد أسامة لـ "قدس الإخبارية": "بعد تحرره قال لي إن من يدخل الأسر ويتذوق مرارته، لن يفكر بالعودة إليه مجددا، وأفضل أن يأخذونني ميت على أن يتم اعتقالي"، وفي إحدى المرات وخلال حديث تجريه العائلة، قالت الوالدة: "عندما أموت لا أريد أحد يبكي علي"، ليرد عليها أسامة "وأنا كمان يما لما أموت اوعي تعيطي عليّ أمانة إذا بتعزيني".

براء إبراهيم عطا كان يفصله أسبوع عن عامه التاسع عشر قبل أن يستشهد، درس في الفرع الصناعي وعمل في مجال "البلاط"، كان يتصف بالغموض، هادئا، محبوبا، متلزما دينيا، اعتقل بعد الإفراج عن شقيقه قبل عامين دون توجيه تهمة له، وبقي في الأسر مدة أسبوعين وأفرج عنه بعد دفع كفالة مالية.

البوصلة نحو القدس

ظهر الخميس، اليوم الذي سبق تنفيذهم للعملية، خطط ثلاثتهم للخروج من البلدة والتوجه إلى مدينة القدس، خرجوا مودعين عائلاتهم كما هي العادة، دون أن يُظهر أي منهم ما يدل على أنه لن يعود مجددا إلى منزله.

عاد عادل من أريحا إلى بلدته يوم الأربعاء بدلا من يوم الخميس على غير العادة، وطلب من شقيقته الكبيرة أن توقظه قبل ظهر الخميس لأنه سيتوجه للمسجد الأقصى، كانت عقارب الساعة في حينها تشير للحادية عشر صباحا، بدأ يحضِّر حقيبته التي وضع فيها ملابسه وغطاء يحميه من البرد خلال النوم، وخرج من المنزل مودعا شقيقته.

وعلى بعد أمتار من منزل عادل، كان جاره أسامه يحضّر نفسه للخروج من المنزل بعد أن توضأ وصلى ركعتي الضوء، وقبل أن يخرج استوقفته والدته تسأله عن وجهته، فأجابها بأنه ذاهب إلى المسجد الأقصى، رغم أنها لا تتذكر أنه أخبرها، محاولة إقناعه بعدم الذهاب لأن الوضع متوتر في المدينة.

أسامة طمأن والدته، وقال لها: "بقولوا في تسهيلات، إذا ربي كاتبلي الصلاة في الأقصى رح أكون مبسوط، وإذا لأ برجع"، فأخذت والدته تنصحه بأن لا يدخل في جدال مع الجنود في حال تم منعه.

على عتبة المنزل، وقف أسامة يودع أمه ويقبل يدها كما يفعل دائما عندما يدخل أو يخرج من المنزل، وأخبرها بأنه سيهاتفها عندما يصل إلى المسجد الأقصى.

براء الذي يقع منزله في منطقة ليست بعيدة عن منزلي عادل وأسامة، كان عليه أن يختلق عذرا حتى لا يذهب مع شقيقه صالح إلى العمل، فتظاهر أمام شقيقته بأنه مريض حتى تخبر أخاها بأنه غير قادر على العمل، وما أن اطمئن أن شقيقه سيذهب من دونه، حتى نهض سريعا من سريره ليجهّز نفسه.

والدة براء لم تكن في حينها بالمنزل، إذ توجهت لمدينة رام الله تحضّر لزفاف ابنها الكبير نضال الذي كان من المفترض أن يتزوج بعد عيد الفطر، أما شقيقتاه فكانتا في المنزل عندما خرج منه، دون أن يخبرهما بوجهته.

بعد أن استطاعوا الوصول لمدينة القدس، توجه ثلاثتهم إلى المسجد الأقصى، فأسامة وبراء يدخلان المدينة لأول مرة منذ أن كانا طفلين، أما عادل فكان هو مرشدهم، كونه استطاع في السنوات السابقة دخول القدس وزيارة المسجد الأقصى.

الصلوات الأخيرة قبل الشهادة

في رحاب المسجد، تناول الفدائيون الثلاثة وجبة الفطور الأخيرة، التقطوا صورا لبعضهم البعض، وأمضوا ليلتهم في الأقصى يتضرعون إلى الله بعد سحورهم، داعين أن يستجيب لكل دعاء همسوا به في سرهم.

صباح الجمعة، توجهت أم عادل وبناتها، وكذلك أم أسامة للمسجد الأقصى، وهناك التقتا بنجليهما، هاتفت أم عادل نجلها وطلبت منه أن يأتي لقبة الصخرة لتراه، بعد دقائق جاء وسلّم على والدته وشقيقاته وسأل إذا ما كانوا يحتاجون لشيء، فطلبت منه والدته ألا يشتري وجبة فطور، لأنها هي ستحضرها له ولأصدقائه.

وقبل أن يغادر، ترك عادل هاتفه مع والدته لأن بطاريته أصبحت فارغة، أما أم أسامة فطلبت منه أن يخبر نجلها بأنها هنا لتراه، وما هي دقائق حتى جاء أسامة واطمأن كل منهما على الأخر، وسألته أمه إذا ما كان يحتاج لشيء قبل أن تغادر لأنها تشعر بالتعب، وحاولت أن تقنعه بالعودة معها، لكنه أخبرها أنه نجح هذه المرة بالدخول للمدينة ويريد انتهاز تلك الفرصة، قائلا: "سأصلي التراويح ومن ثم سأغادر المدينة، أو سأمضي الليلة هنا وأغادر في اليوم التالي".

أدى ثلاثتهم صلواتهم الأخيرة في المسجد الأقصى وانطلقوا إلى باب العامود قبل أن يرفع أذان المغرب، أما والدة عادل فكانت تنتظر نجلها أن يأتي ليأخذ وجبة الفطور، وما هي إلا دقائق حتى سمعوا صوت صراخ وإطلاق نار، لكنهم لم يعلموا ما كان يجري في الخارج.

غادرت أم عادل وبناتها المدينة بعد أن تلقت اتصالات تفيد بارتقاء ثلاثة شهداء من البلدة، دون أن تعرف أن نجلها واحد منهم، وبعد ما يقارب نصف ساعة من وقوع العملية وإعلان وزارة الصحة عن استشهاد براء وعادل، بدأ أهالي القرية يتوافدون إلى منازل عائلات الشهداء.

في البداية كانت المعلومات متضاربة عن هوية الشهيد الثالث إذا ما كان من الخليل أم من البلدة، لكن الصور التي انتشرت لأسامة وبجانبه سلاح الكارلو كانت تظهر وجهه بوضوح، ومن خلالها تعرّف أهالي البلدة عليه، لكنّ الأنباء كانت تفيد أنه على قيد الحياة، ليتم إعلان استشهاده بعد منتصف الليل.

اقتحام البلدة

فجر السبت، اقتحمت قوات الاحتلال بلدة دير أبو مشعل، وداهمت منازل الشهداء الثلاثة وحقق ضباط الاحتلال مع عائلاتهم وأخذوا قياسات منازلهم تمهيداً لهدمها بعد أن عاثوا فيها الفساد، وتخلل ذلك شتم لعائلاتهم وللشهداء.

والدة الشهيد براء قالت: "ضابط المنطقة السابق "خليل"، وأثناء اقتحام قوات الاحتلال للمنزل، أخبرني أن المنفذين أجروا عمليات مسح للمنطقة ثلاث مرات، إذ رصدتهم الكاميرات المثبتة في المكان الذي نفذوا فيه عمليتهم".

في اليوم التالي، اقتحمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال البلدة، لكن هذه المرة لتمزيق صور الشهداء التي كانت تثير غضبهم، داهموا منازل الشهداء الثلاثة وأزالوا كل الصور واللافتات، حتى الصور التي تم إلصاقها في الشوارع، أما الصور التي لم يستطيعوا إزالتها، تعمدوا تشويه ملامح وجوههم في الصور بسكاكين كانت بحوزتهم.

الشهيد عادل عنكوش، كان قد كتب وصية وخبأها في خزانته بين ملابسه إذ وجدتها عائلته في اليوم التالي من العملية، يقول فيها: "لقد اخترت طريق الجهاد، لأنها الطريق التي تؤدي إلى الجنة، لا تحزنوا على فراقي والملتقى في الجنة".