رام الله- خاص قُدس الإخبارية: منتصب القامة، معتدا بنفسه يسير، وخلفه مجموعة من الأطفال، يمسك ببارودته الفريدة من نوعها، وعلى كتف يده الأخرى يعلّق بارودة ثانية ويصرخ في زقاق المخيم "أنا القايد أبو صالح"، ويشير بيده للأطفال بأن يتبعوه فيفعلون.
الثالث والعشرين من تشرين الثاني عام 1999، رزقت نورا ومحمود الحطاب بابنهما محمد الذي جاء بعد ابنتين، ليكن أصغر أطفالهما وابنهما الوحيد، فمنذ ولادته تعلّقت به والدته كثيرا وميزته عن أي فرد من عائلتها، وأطلقت عليه لقب "أبو صالح" منذ صغره، تيمنا بشخصية القائد والفدائي أبو صالح في مسلسل التغريبة الفلسطينية.
محمد منذ طفولته كان محبوبا في العائلة، وأغلب سكان مخيم الجلزون شمال رام الله كانوا ينادونه أبو صالح، ولم يكن والده يميزه عن شقيقتيه فكان يوفر لهم كل شيء يحتاجونه، ولأنه كان مهتما بتعليمه سجلّه في مدارس خاصة، إذ كان يقول له "العلم عمل وطني، فبه تقهر عدوك أيضا".
تأثر محمد بشخصية أبو صالح، فكانت هوايته شراء "البواريد" وتجميعها، وطلب من والده شراء المزيد له، ففي 2007 مُنع بيعها في الأسواق لكن والده أوصى بائعا على بارودة كبيرة في كل المخيم لا يوجد مثلها، وبقي يحتفظ بها.
أحب محمد مهنة الحلاقة، فبعثه والده إلى أحد المعاهد برام الله ليتعلمها رغم أنه كان يبلغ 13 عاما، وكان يطمح لدراسة الملاحة الجوية في ألمانيا بعد إنهاء الثانوية العامة، فهو كان يرغب أن يكون عسكريا، أما والدته كانت تحاول اقناعه للدراسة في الضفة الغربية حتى لا يغيب يوما عن عينيها.
كان محمد فتى هادئا يسمع أكثر مما يتكلم، كتوما واجتماعيا، شخصا قياديا ليس فقط في محيط مخيمه بل في مدرسته، إذ كان هو صاحب القرار في الأمور المتعلقة بالطلاب، ارتجاليا في الحديث، يملك القدرة على الاقناع، يحب الحياة والسفر.
من نسمة الهواء كانت تخشى عليه، فوالدته كانت تلبي له كل طلباته إذ كان يعتمد عليها كثيرا داخل المنزل، وإذا ما رفض تناول الطعام كانت تبكي حتى يأكل، وكلما أراد الخروج من المنزل تتفقد ملابسه فإذا كان الجو باردا جلبت له معطفه ليرتديه، وحين يخرج إلى المدرسة كانت تتبعه وعندما يعود تنتظره خارج المنزل لتستقبله.
تقول والدته لـ"قدس الإخبارية": "كنت أحب أن أراه في كل مراحله، أراه ناجحا، أحب أن أراه في كل شيء جميل هو يتمناه ويحبه، لم يكن مهما بالنسبة لي شراء الملابس كنت أعطيه ليشتري ما يريد، فإذا ما كان سعيدا أكون أنا سعيدة".
أصيب محمد مرتين برصاص الاحتلال خلال مواجهات قرب مخيم الجلزون، ففي المرة الأولى عام 2014 أصيب برصاصة في قدمه وخضع لعملية جراحية في الأردن، وفي المرة الثانية عام 2015 أصيب برصاصة قرب الحوض.
كانت والدته تخاف عليه، وتنصحه دائما بأن لا يشارك في المواجهات خشية من إصابته، إلا أنه كان يقول لها:" أنت خويفة"، فترد عليه لا لست كذلك أنا أخاف عليك أنت.
في كل مرة كانت والدته تسمع أن هناك مواجهات مندلعة قرب ميخم الجلزون أو عند جسر عطارة، تتصل على نجلها لتعلم إذا ما كان يشارك أم لا، وكانت تقول له: "انت بتضرب وأنا معك، فيرد أنتِ أمي وافعليها".
في إحدى المرات اندلعت مواجهات عند جسر عطارة، وكان محمد قد خرج من مدرسة الأمير حسن في بلدة بيرزيت وتوجه إلى هناك، اتصلت عليه أمه لكنه لم يجب لتعاود الاتصال عليه مرارا، فيجيب وتقول له: "أنا هيني جاي على جسر عطارة، انت بتراجم وأنا قدامك، عشان تيجي الرصاصة فيّ مش فيك"، فيرد عليها "أوعي تعمليها شو بدهم الشباب يحكوا لحقته أمه؟!".
كانت أمه تنهره بسبب مشاركته في المواجهات، فيقول لها: "شو فيها وإذا استشهدت (...)"، فتبدأ بالدعاء على نفسها وتبكي وتخاصمه، وبعد برهة من الزمن تقول له: "يما يا حبيبي هو أنا الي غيرك، بدك تروح وتتركني"، فيرد لا تخافي يا أم محمد.
تأثر محمد باستشهاد صديقه ليث الخالدي الذي كان معه في ذات الصف، ولاحظت عليه عائلته ذلك، وبدأ يتحدث عن الشهادة أمامهم.
في الليلة التي سبقت استشهاده، كان مصطفى نخلة، صديق محمد المقرب عائدا من العمرة وقد اشترى له بدلة رياضية، ووالده اشترى له خلال سفره زجاجة عطر، لتضعهما والدة محمد بجانبه حين كان نائما، وفي صباح اليوم التالي ارتدى البدلة وتعطر من العطر.
يوم الخميس 23/ آذار الماضي، خرج محمد إلى المدرسة لكنه عاد سريعا برفقة مصطفى والتقى بأمه في السوق، فسألته عن سبب عودته مبكرا ليخبرها بأنه هناك إضراب ويعود معها إلى المنزل، اتصل محمد على مصطفى وطلب منه أن يلتقي به في القهوة ليدخنا النرجيلة، إلا أن مصطفى رفض، وبعد برهة من الزمن وصل محمد لمنزل مصطفى وبدأ ينادي عليه وبعد الحاح، لبى مصطفى طلب محمد وذهبا إلى القهوة.
وفي الظهيرة عاد محمد للمنزل وكان يريد الخروج ليصحطب ابن عمه من سجن عوفر، فطلبت والدته منه بعدم الذهاب خشية عليه من الجنود، إلا أنه ذهب، وبعد عودته طلب من مصطفى أن يلتقيه بالقهوة فذهب وبقي ينتظر محمد دون أن يعود.
قبيل غروب الشمس، خرج والدا محمد وعمه لتقديم التعازي في قرية بيت ريما، وفي طريق المخيم صادفوا محمد، فطلب والده منه بأن يرافقهم إلا أنه رفض ليطلب من والدته مبلغا، لكنها رفضت وطلبت منه العودة للمنزل للبقاء مع شقيقته، وأثناء الحديث مرر له والده 20 شيقلا دون أن تراه زوجته.
بعد أقل من ساعة، كان محمد ومجموعة من فتية المخيم يستقلون سيارة عائدين من رام الله، وأثناء مرورهم من البرج العسكري الجديد، القريب من مستوطنة "بيت إيل" بدأ الجنود بإطلاق النار صوب سيارتهم وكان يتركز على نوافذ السيارة وخزان الوقود.
ارتقى محمد على الفور عقب تلقيه سبع رصاصات خرجت من جسده، وثلاث استقرت في أنحاء متفرقة، وأصيب بقية الفتية بجروح خطرة.
تلقى عم محمد اتصالا يفيد باستشهاد محمد، إلا أنه أبلغ والده بأنه مصاب في قدمه، خرجت العائلة مسرعة متوجهة لمجمع فلسطين الطبي، لكن والدته شعرت أن نجلها لم يكن مصابا بقدمه وأن سوءا أصابه، وعند وصولهم ترجل والده وتوجه نحو الطوارئ ليسأل عن القسم الذي يتواجد فيه نجله.
أما عمه فتوجه مباشرة إلى الثلاجات لتلحقه والدة محمد بين جموع الناس الكبيرة، وعندما وصلت شاهدت نجلها، حاول الناس منعها إلى أنها تمكنت من الوصول إليه وتوديعه، أما والده وعندما وصل إليه خاطبه قائلا: "تركتني وروحت وين يابا، كان نفسي أفرح فيك".
منذ ذلك الحين وحتى اليوم، محمد لم يغب عن والدته وفي كل ليلة يزوها في حلمها ويكون سعيدا، تراه وكأنه حقيقة تسمع صوته يناديها فتنهض لتلبي نداءه، فهي قليل ما تخرج من المنزل إذ أنها تشعر بأنه سيعود وينادي عليها.