قتل طفلات صغيرات، أين الشرف في ذلك؟ جميعنا يعلم أن المقتولات طفلات، ومع ذلك نحتفي نحن بقاتلهن ونعتبره عملاً وطنياً مقاوماً بامتياز.
تفضل، بإمكانك الآن أن تستعرض "حكمتك" الأخلاقية علينا، وأن تفترض بكل حماسةٍ طفولية بأننا جميعاً وقعنا في هذه "الخطيئة" الواضحة، وأن حكمتك وعمقك وبعد نظرك سمحوا لك بضبطنا متلبسين بالجرم المشهود.
طبعاً لك الحق أن تعزز أخلاقيتك واعتزازك بنفسك بأنك تتبنى رأياً منفرداً في وجه جمهور "الرعاع" من أصحاب النشوة الشعورية وأتباع الشعبوية عديمي العقول.
الأخلاقية الشكلية داء يصيب طيفاً واسعاً من نخبتنا، وقد استعرض نفسه بشكلٍ مقزز صباح اليوم مع تعليق بعض تلك "النخبة" على الفرحة والبهجة التي عمت جمهور الناس بعودة بطلٍ دفع من عمره عشرين عاماً ثمناً لخياره الذي اختاره.
هذه الأخلاقية الشكلية هي التي تدعو كثيرين للاعتقاد بأن الفضيلة شكل وليست مفهوماً، فكل قتلٍ مذموم بشكله وليس بغايته ومقصده، ويمسي المقصد مشطوباً من الحساب الأخلاقي، مع أن حكم الأخلاقية حكم مقصدي قبل كل شيء.
قتل أخيك بالسكين لتذهب بحصته من الميراث خطيئة أخلاقية، وقتل عدو يهدد حياتك وأولادك بالسكين حين لا تجد غيرها يكون واجباً أخلاقياً يلحق بك العار إن لم تفعله.
الفعل واحد في الحالتين، لكن ما الذي حدد أخلاقيته؟ ترى إذا بدأنا نحكم على الأخلاق بشكلها وبمعزلٍ عن مضمون الأفعال ومقاصدها، فأي أخلاقيةٍ ستبقى لدينا؟ وسنزِن الفارق بين الحالتين السابقتين بأي ميزان؟
هذا "التسطيح" لفكرة الأخلاق قد يكون مدفوعاً بسطحية وضحالة أصحابه أحياناً، لكنه حين يأتي من كتّابٍ محترفين فلعل علينا هنا أن نفكر أكثر بالدافع؛ فلِمصلحة من تأتي محاولة إرباك الناس وتضييع بوصلتهم؟
حين يكون أطفالك مستباحون للقتل في كل أنواع المواجهة العسكرية؛ فهل تركهم مباحون لعدوّك فعلٌ أخلاقي؟ في أكثر من 12 مواجهة خاضها العرب مع الصهاينة لم يتمكنوا من حماية أطفالهم من الموت المباغت في ملاجئهم ومدارسهم الآمنة ولا مرّةً واحدة، ولو قامت أي مواجهةٍ اليوم مع هذا العدو على أي جبهة فلا توجد دولة أو حركة مقاومة عربية قادرة على حماية أطفالها في بيئتها المدنية من الموت المجاني، وهنا ينكشف زيف وخداع وتضليل ذلك المنطق الشكلي التسطيحي؛ ترى أي أخلاقيةٍ في أن تدّعي احترام دماء أطفال عدوّك بينما دماء أطفالك مستباحة على مدى 100 عامٍ من الصراع؟
أي فضيلةٍ هذه في أن تنتحب أمام دماء أطفال عدوك فيما عجزك مزمنٌ ومستمر عن حماية أطفالك وهم يستباحون على يده بالمئات والآلاف في كل مواجهة، وهو يستخدمهم للضغط على المقاتلين ويعتبرهم "خسائر جانبية" لا قيمة لها، من مجزرة كفر قاسم وقبية إلى بحر البقر وغور الأردن وحتى بيروت وقانا وغزة؟ إن إشراكه في هذا الكأس متى استطعت وسمحت لك الظروف هو عملٌ أخلاقي بامتياز، لأنه مع تكرار خسارته سيضطر للتفكير مرتين قبل استهداف أطفالك، وحينها تحصن دماء أطفالك منه ولا تعود مضطراً للرد بالمثل فتحصن دماء أطفاله كذلك.
معظم من يتناولون عملية أحمد الدقامسة اليوم يتغاضون عن بعدها السياسي، فالدقامسة قام بهذه العملية في منتجعٍ يدار إسرائيلياً على الأراضي الأردنية ويعرف بـ"جزيرة السلام"، كان يراد منه أن يكون رمزاً للتعايش السلمي والتطبيعي بين الشعبين، ونجح الدقامسة بتحويله إلى رمزٍ لاستحالة هذا التطبيع. إن الصانع الأول لحالة "السلام البارد" مع الصهاينة، هو أحمد الدقامسة، فعمله هذا واستقباله شعبياً أسهم في إبقاء التطبيع محصوراً في الدولة وفي نخب محدودة متهافتة وراء مصالحها.
لقد أطلق الدقامسة النار عام 1997 من بندقية أم 16 على حافلةٍ سياحية فقتل 7 من ركابها وجرح 5 لأن بندقيته توقفت عن العمل، ولو تمكن من تفريغ كامل ذخيرته لكانت الحصيلة فوق ثلاثين قتيلاً، وكان رقمٌ كهذا كفيل بنسف اتفاقية وادي عربة وكفيلٌ وضع نهايةٍ لمسار التطبيع الأردني الصهيوني الذي لم توضع له نهاية حتى الآن، وحين يوضع عمل الدقامسة في إطاره السياسي يمسي عملاً وطنياً بامتياز كاد أن يصوّب بوصلةً سياسيةً فشلت قوى المعارضة السياسية في تصويبها على مدى 23 عاماً.
أخيراً، حين أقبل الدقامسة على عمله هذا أدرك أنه ليس محمياً بظهيرٍ سياسي، وأنه سيدفع ثمنه منفرداً، وهذا ما كان. كان الإعدام هو العقوبة المتوقعة، وكان سقوطه برصاص أعدائه ثمناً ممكناً، لكنه مع ذلك ارتضاه لتصويب البوصلة، فوضع حياته في كفة ومصلحة شعبه وأمته في كفة، وغامر بفناء نفسه لتصويب مسار المجموع، فأي أخلاقيةٍ أكثر من ذلك؟ وأي تفانٍ وتضحيةٍ ونكرانٍ للذات أكثر من ذلك؟