في بيت أم السعيد، نوار لوز أزهر على عتباته مستقبلا مهنئين يمشون خطواتهم الأولى فيه، دموعهم تترنح بعيون خجلة تتفحص المكان باحثة عن الخالة أم السعيد بين عشرات وسع لهم بيتها الصغير.
هنا لن تجد أم السعيد تجلس بمكان ما بهدوء، فها هي تتجول في محيط المنزل وزواياه حيث توزع ضيوفها، تتفقد هذه المجموعة، وتجلس قليلا مع تلك، والكل يبادل والخالة أم السعيد قصص بطولة نجلها الشهيد باسل الأعرج، مواقفه الطريفة، ووقفاته الإنسانية.
تهز النسمات شجرة اللوز أمام المنزل مجددا فيسقط زهرها وكأن السماء تمطر وردا على بيت أم السعيد، فيما ترى جبال الولجة المحتلة عام ١٩٤٨تقترب شيئا فشيئا، والكل يسأل الآخر: "كيف تعرفت على باسل؟" والكل يسرد حكايات لا تشبه بعضها، وتعلق أم السعيد، "كنت أعرف أن لباسل أصدقاء كثيرين.. ولكني لم أتوقع أنهم كثيرون لهذه الدرجة" وتشير إلى الحاضرين.
حان موعد الغداء، تنظم أم العريس جولتها المعتادة، جرح ووجع يتعمق تخفيه داخلها على فراق نجلها الغالي الذي ورث ملامحها، تتفقد كل الضيوف وتتأكد أنهم جالسين يتناول الطعام، وما أن يدخل ضيف جديد حتى تطلب له صحنا من الطعام.
وإذا كنت ذاك الضيف فلا تحاول أن تثبت للخالة أم السعيد أنك الآن تناولت طعامك، ولا تحاول الالتفاف على محاولاتها، فهي ستصر عليك إصرارا حتى تراك تأكل، وقد تجدها مرة أخرى فوق رأسك فجأة تجبرك أن تتناول الصحن حتى آخر معلقة.. نعم عزيزي أنت في بيت أم السعيد حيث كلمة "لا" على الطعام مرفوضة، فهنا كرم العائلة يعم.
ترى الجميع يتفقد ملامح أم السعيد بين اللحظة والأخرى، محاولا الاطمئنان عليها ليجدها ما زالت تخفي ألمها ويسمع صراخ قلبها "اشتقتلك يما يا باسل".
نمسح دمعا سقط فجأة بعدما دارت مجددا مجموعة أسئلة في رؤوسنا: هل استشهد باسل؟ هل فقدنا باسل؟ ماذا سنفعل الآن؟ كيف سنكمل الدرب؟... الخ، ليجد الخالة هي من تطمئن عليه، تحضنه، وتربت على كتفه.
آه ما أجمل ابتسامتك يا خالة.. كيف لك هذه القوة أيتها الجبارة، وتسقط دمعة جديدة، وأم السعيد تواصل سرد حكاياتها وباسل على الحاضرين، "قوي وعنيد كان باسل منذ طفولته، حتى عندما كنت أضربه عندما يخطئ لم يكن يبكي".
وتضيف، "ما أغباهم حقا، كيف كانوا يتوقعون أن يستسلم باسل ويسلم نفسه، هو ابني وأعرفه جيدا يرفض الاستسلام والخنوع لأحد".
وفي بيت أم السعيد أحفاد لها يركضون حولها وبين الضيوف، تشير الخالة إلى أحدهم، "هكذا كان باسل تماما وهو بعمره"، هذا الطفل الذي لم يكمل سنواته الثلاث بعد، يتفاخر كثيرا كيف صرخ مرة في جنود الاحتلال خلال اقتحامهم بيت جدته، وكيف طردهم من المكان، وما أن أنهى حديثه الشيق سألته: ماذا سنفعل بالجيش، صمت وهو يلعب بعجلات لعبته البلاستيكية، ثم قال وهو يدور في المكان، "بدي أجيب سلاح وأطخ كل الجيش"
تصل مجموعة نسوة من مخيم العزة وهن يهتفنك "لا تحزني يا أم الشهيد.. دم ولادك فجر جديد"، تبكي إحدى قريباته متأثرة بالصوت الذي يهدر لباسل، فيما يصرخ طفلها فيها وبالحضور، "الكبار لا يبكون.. الكبار لا يبكون".
"سوف نبقى هنا كي يزول الألم.. سوف نحيا هنا سوف يحلو النغم"، يهدر الغناء مجددا في ساحة منزل أم السعيد، فهكذا أوصى باسل أن يزف الشهداء بالغناء الموحد كما ورثنا من الأجداد.
فيما جنود الاحتلال يقفون على بعد أمتار قليلة عن المنزل، داخل مستوطنة "هار جيلو" التي يفصلها شارع واحد عن منزل أم السعيد، يراقبون بخوف مئات المتوافدين لتقديم التهاني لعائلة أم السعيد، مئات المتوافدين الذين جاؤوا ليجددوا العهد والوعد لباسل، أننا لن نضل الطريق.