شبكة قدس الإخبارية

فوزية ودعت محمد وحكاياه عن المقاومة اللبنانية

شذى حمّاد

طوباس – خاص قدس الإخبارية: في العاشر من كانون ثاني، كانت قوات الاحتلال تشن حملة مداهمات واعتقالات في مخيم الفارعةشمالي الضفة المحتلة، حينما قفز جنود الاحتلال من سطح أحد المنازل القريبة إلى داخل منزل محمد الصالحي.

"أخرجونا من الغرفة بالقوة، محمد ركض إلى المطبخ ولحق به أحد الجنود، فيما وقفت أنا أمام الباب وفتحت يدي محاولة حماية محمد" تروي فوزية والدة محمد لـ "قدس الإخبارية"، مستعيدة صيحات نجلها، "الله أكبر الله أكبر".

رغم أن قدمها مكسورة وملفوفة بالجبص، إلا أنها نهضت سريعا محاولة الدفاع عن نجلها الوحيد، فيما دفعها الجندي إلى الأرض مجددا، " كنت أرى شرارات الرصاص المطلقة من مسدس الكاتم للصوت اتجاه محمد، قبل أن أراه تمدد على الأرض". سقط محمد، أغلق عينيه، وما عاد يستجب لنداءات والدته التي بدأت تطلق صرخات الاستنجاد بأهالي المخيم، "يا عالم، مات ابني محمد مات.. الجيش الإسرائيلي قتلوا محمد"، فيما يواصل الجندي إطلاق تهديداته، "إذا لم تسكت فسأقتلك كما قتلته".   دفع جنود الاحتلال فوزية لداخل الغرفة واحتجزوها بعد أن أغلقوا الباب، فيما تجمعوا حول جثمان الشهيد محمد بحذر موجهين أسلحتهم صوبه، قبل أن يتأكدوا أنه فارق الحياة. تقول فوزية لـ "قدس الإخبارية"، "فتحت الباب، رأيت محمد نائما لا يتحرك، أحد الجنود يحاول انعاشه، وآخر أخرج قنبلة من جيبه واستعد لإلقائها صوب محمد، قبل أن يلوح له الجندي الآخر أن محمد مات".

اللقاء الأول الذي جمع محمد بجهاد يبدو أنه لم يكن الأخير (...)، حينها صافح جهاد محمد، وتمسك بيده برهة قبل أن يتركها ويغادره دون أن يودعه بكلمة، أو ربما همس له بسر لا يباح علانية، فأخفاه.

فتح عينيه فاصطدمت بسقف الغرفة ليجمع شتات ذهنه أنه ما زال هنا، "حلمت بالشهيد جهاد مغنية بسلم علي.. مسك يدي ولم يتركها"، روى محمد حلمه لوالدته التي لم يطمئن قلبها، "ماذا بك يا محمد؟ ماذا يدور برأسك؟.. كل يوم تحدثني عن لقاء بشهيد" بعد أيام، وقبل أن تدق الساعة الثانية فجرا بدقائق، استيقظ محمد على ضجة في المنزل، طل من الفتحة التي اتسعت تحت الباب، "يما أصحي.. الجيش بالدار"، ليكون حينها المشهد الذي استعرضناه سالفًا.

١١ رصاصة استقرت في جسد محمد (٣٣عاما)، وبعد أن تأكد جنود الاحتلال أن قلبه توقف تماما، هربوا من المنزل، تاركين خلفهم زغاريد فوزية تهز المخيم معلنة وداع شهيد جديد.

لم يكن قد مضى أيام قليلة، عندما جلست فوزية تستعرض أمام نجلها الأماكن القريبة المخصصة لحفلات عقد القران، تسأله فوزية "أين سيكون عرسك يا محمد؟ ... خيارات كثيرة حولنا"، فيرد، "في مكان كبير ومفتوح يتسع للجميع، سنعزم كل المخيم".

تعلق فوزية لـ"قدس الإخبارية"، "كنت أحلم أن أزوج محمد ليكون له ونيس بعد أن أموت.. إلا أنه كان يؤجل باستمرار"، مبينة أنه في يوم استشهاده كان قد قرر زيارة إحدى العائلات تمهيدا لخطبة ابنتهم.

ثلاث سنوات اعتقل محمد في سجون الاحتلال إثر عمله المقاوم بالتصدي لقوات الاحتلال، خلال اجتياح نابلس عام ٢٠٠٢، "كان محمد يقاوم الاحتلال مع أبناء المدينة، حاملًا الكلاشنكوف ومطلقًا النار تجاه الاحتلال"، تقول فوزية.

وتبين فوزية أنها حرمت من زيارة نجلها طيلة سنوات اعتقاله، فيما كان زوجها يواظب على زيارته، مستذكرة كيف كان يعود بأيام الشتاء وملابسه مبللة وعيونه منتفخة من البكاء على فرق محمد الذي تركه خلفه في السجن.

بعد أن نال محمد حريته، عاد للعمل في صفوف الأجهزة الأمنية الفلسطينية، إلا أنه تم رفضه كما قطع راتبه، ما دفعه لشراء عربة يبيع عليها الذرة في أزقة مخيم الفارعة.

"بعشرين شيقل فقط كان يبيع محمد في ساعات الصباح، وأحيانا بعشرين شيقل أخرى في ساعات المساء، وقد كان سعيدا بما يجمعه ومكتفيا به"، وفي يوم عاد محمد يفتخر لوالدته بما جمع، فلأول مرة يصل ما يجمعه ٨٥ شيقلًا، "كل بنات المدارس جاؤوا لمواساتي باستشهاد محمد، فقد اعتادوا عليه يقف أمام مدرستهم لبيعهم الذرة، وها هو رحل اليوم تاركا خلفه سمعة طيبة"، تردف فوزية لـ"قدس الإخبارية".

بضع حمامات وأرانب كان يربيها محمد، وما أن يعود إلى المنزل ليفتح الباب عليهم ويقدم لهم الطعام، بعد أن يتجمعوا تحت قدميه، الآن تقترب حيوانات محمد من الباب كلما فتح دون أن تلقى صاحبها الذي اعتادت أن تأكل من يديه.

"كان يعود من العمل، يعمل ابريق شاي ويجلس أمام المدفأة يقرأ القرآن بصوت عالي، ثم يبدأ برواية قصص الأنبياء لي، كما كان يحدثني كثيرا عن قصص المقاومة في لبنان"، تقول فوزية.

ومن أكثر قصص المقاومة التي كان يعيدها ويكررها محمد على مسمع والدته، تفجير أحد المقاومين في لبنان نفسه بعد وقوعه في كمين لجيش الاحتلال، حيث طلب من رفاقه مغادرة المكان وتركه، بعدما أصيب بجروح بالغة.

محاولات محمد في الحياة لم تتوقف، فقد كان مصرا على إثبات نفسه كفرد منتج رغم امكانياته المحدودة، "حاول الحصول على رخصة قيادة، إلا أنه لم ينجح في الامتحان، وبعد عدة محاولات أخبرته أنه يكفي أنه ناجح عند الله".

وتستذكر فوزية كيف أخذها محمد في جولة بسيارة غير مرخصة في الشتاء الماضي، ليثبت لها أنه يستطيع القيادة إلا أن الحظ لا يحالفه لينجح بالامتحان ويحصل على الرخصة.

وعن طفولته، تروي فوزية لـ "قدس الإخبارية"، أنها كانت كثيرة القلق عليه، كانت تركض خلفه في المخيم باحثة عنه وفي أحيان كثيرة تمنعه من الخروج، "بقيت أرضعه لبلغ الخمس سنوات حتى يبل ريقه بوجه هذه الحياة الصعبة".

أكبر هواجس فوزية كان الاحتلال، فلم يكن شعور الخوف على محمد من قوات الاحتلال يفارقها، إلا أنها لم تعتقد أنهم سيحضرون إلى المنزل ويقتلون ابنها أمامها، "يا ليتهم وضعوا القيود بيده وأخذوه بدلا من قتله"..