فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: ذكر التّاريخ والرّواة أن جبال نابلس شهدت إعلان أول ملكٍ ثوري في تاريخ فلسطين وذلك حين توّج الثائر أحمد المحمود "أبو جلدة" نفسه ملكاً على فلسطين بقوة السّاعد ونار السلاح 1931-1934، ذات الشّرف نالته جبال الخليل باحتضان أول حكومة ثورية في تاريخ فلسطين، حين أعلن القائد عبد الحليم الجيلاني "الشلف" قيام حكومة شِعب الملح في الثورية بالخليل، خلال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939، فمن هو القائد الأسطوري عبد الحليم الجيلاني وما أخبار حكومته الثورية في جبال الخليل؟.
عبد الحليم محمد الجيلاني المولود في مدينة خليل الرحمن عام 1905، جُبلت طينتُه بالكفاح لأجل فلسطين، فقد عرف درب النضال مُبكراً وأمضى حياته في دُورب الكفاح لأجل تحرير. فقاد ثورتين وهدم الاحتلال بيته مرتين، وأُعلنت وفاته مرتين، ولا يزال صدى جهاده في جبال فلسطين مُدوياً.
وابتدأ مسيرته الكفاحية في العام 1931 حيث أمضى في السجن 6 شهور بتهمة مُحاولة الاستيلاء على سلاح أحد الجنود الإنجليز، ثم شارك في هبّة فلسطين سنة 1933، وفي العام 1934 كان واحداً من شباب الخليل المُبادر للمشاركة في اجتماع القدس لأجل تشكيل تنظيم ثوري يتزعمه عبد القادر الحسيني.
ولما بدأت شرارة الثورة الكبرى "ثورة القسام" في 15 نيسان 1936 كان من أوائل المُسارعين لحمل السلاح ودعوة الناس للمشاركة في الثورة والالتزام في الإضراب العام، واتهم بقتل جنديين في منطقة برك سليمان في بيت لحم، ليترك عمله بعدها ويتفرغ للثورة، فقاد فصيلاً من شباب الخليل، وكان له دور مهم في مراحل الثورة الأولى، واشترك في معركة الخضر 6/10/1936 التي استشهد فيها القائد السوري سعيد العاص رحمه الله، وجرح فيها عبد القادر الحسيني. وقد تولى عبد الحليم الجيلاني مهمة تهريب الحسيني من المستشفى لينتقل إلى سوريا للعلاج.
وتركز دور فصيل الجيلاني على مهاجمة سيارات الإنكليز على الطرقات وإطلاق النار على المصالح والدوائر البريطانية، وقطع أسلاك الهاتف والكهرباء، وإغلاق الطرق، والاشتباك مع الدوريات والجنود في الخليل ومحيطها، وتوزيع المنشورات الحاثّة على الثورة.
الحكومة الثورية وبطولاتها
استمر عبد الحليم الجيلاني قائداً لفصيل الخليل حتى تجددت الثورة في العام 1937، فبادر لتشكيل جيش ثوري يقود الجهاد وفصائل الثورة في منطقة الخليل والجنوب الفلسطيني واختيرت منطقة شِعْب الملح في واد عزيز غرب الخليل مَقراً لهم. وأُصْدِرَت البلاغات وَسُنَّت القوانين باسم الثورة، وصار شِعْب الملح مركز حُكم بين الناس ودائرة يُخطط منها للأعمال الثورية في منطقة نفوذ القائد الجيلاني، حتى صار الناس يُسمون ثورته "حكومة شِعب الملح". وقد شُكِّلَ الجيشُ النظامي من مقاتلين من حارات الخليل البالغة 14 حارة، ومقاتلين من قُرى جبل الخليل والقدس وبيت لحم، وَقُسِّمَ الجيش إلى خمس فرق، كُل فرقة مُكونة من خمسة فصائل، على رأسهم جميعاً قائدٌ عام هو عبد الحليم الجيلاني الذي نُودي به "المنصور". وعينت الثورة الأستاذ عبد الخالق يغور والأستاذ عمر التكروري والأستاذ مخلص عمرو مُستشارين للقائد العام "منصور"، وألزِمَ مخاتير حارات الخليل ومخاتير القُرى بتجهيز مجموعة من الشباب مع سلاحهم على أن يبقوا في مشاغلهم ومزارعهم وأعمالهم كجيش إسناد للثورة لحين استدعائهم للمعارك. وتقرر فرض ضريبة 25% على الموظفين في دوائر الحكومة تُدفع للثورة.
وعقدت الحكومة الثورية اجتماعاً في شِعب الملح ضم كُل فصائل الثورة في جبل الخليل وأنصارها، وتقرر فيه إعلان العصيان المدني ومقاطعة محاكم الانكليز والاحتكام لمحاكم الثورة في شعب الملح، وإلزامية لبس الكوفية والعقال في المدن والأرياف، والامتناع عن حمل الوثائق وجوازات السفر الصادر عن بريطانيا إلا لطلبة العلم ومن تأذن له الثورة.
وقد خاضت حكومة شعب الملح عدّة معارك مهمة طوال عامين وسجلت بطولات فريدة في كفاحها ضد الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية. ولا يتسع المقال لذكر تفاصيل تلك المآثر والبطولات التي سُجلت في أسفار القائد منصور. غير أن أشهر تلك المعارك: معركة خربة حاكورة في 25/5/1937 ومعركة تحرير مدينة الخليل في 5/5/1938 ورفع أعلام الثورة الفلسطينية على المقرات الحكومية لمدة 24 ساعة، ومعركة منطقة الفحص، ومعركة تحرير مدينة بئر السبع في 9/9/1938 والاستيلاء على كل مرافق وسلاح الحكومة وإعلان حرية المدينة لأكثر من شهرين، ومعركة جورة بحلص (راس الجورة حالياً)في شهر 9/1938 وهي من أشهر معارك الثورة، ومعركة خربة بيت خيران، ومعركة بني نعيم الكبرى في 4/10/1938 وهي من معارك ثورة فلسطين الفريدة وقد قدمت الثورة فيها كثيراً من الشهداء والجرحى ومنهم عبد القادر الحسيني، ومعركة خربة قلقس في أوائل العام 1939، وأخيراً معركة شعب الملح الأخيرة في شهر 5/1939 وكانت آخر معارك الحكومة الثورية، حيث طوق الواد من قبل الجيش البريطاني المدعوم بالطائرات الحربية، وجرت معركة طويلة ممتدة، حشدت لها بريطانيا قوة كبيرة للتخلص من ظاهرة الحكومة الثورية المُتمردة في جبال الخليل. وقد أصيب القائد منصور بعدة شظايا في جسمه ورأسه. وكانت آخر معركة مهمة في سجل حكومة شِعب الملح الثورية.
سقوط الحكومة وبقاء المقاومة
انتهت ثورة فلسطين الكبرى عام 39 باستشهاد واعتقال كثير من قادتها، وتشكل فصائل السلام التي عملت على إجهاض الثورة وملاحقة المُنتسبين لها، ومع دخول بريطانيا الحرب العالمية الثانية كانت شرارة الثورة قد انتهت، وكان على من بقي من قادتها مُغادرة البلاد. فغادر عبد الحليم الجيلاني " الشلف" إلى مصر في العام 1939 ومنها سوريا فالعراق والأردن واستقر به المقام في فلسطين مُجدداً، بعد أن نال العفو المشروط من بريطانيا عام 1944.
وبعد عودته لفلسطين لم يتوقف جهاده إذ التحق في العام 1946 بمنظمة الفتوة قائداً للواء القدس، وبعد حلّها وتشكيل منظمة الشباب العربي كُلف بقيادة منطقة الخليل، وفي فترة غربته عن فلسطين عمل لأجل القضية ولمواصلة الجهاد وظل قريباً من الحاج أمين الحسيني، وتواصل مع الإخوان المسلمين والتقى بمرشدهم حسن البنا ورافقه لمدينة غزة وساهم في نقل ذخيرة لهم للمشاركة في حرب 48.
وتولى قيادة منطقة الجنوب في الجهاد المُقدس الذي تزعمه رفيق دربه في الجهاد عبد القادر الحسيني، وخاض المعارك في حرب 47-48 ومنها معركة الدهيشة وتلة راحيل وجبل المكبر والقسطل وكفار عتصيون ومعركة الفلوجة وغيرها.
سِجلُ كفاح يأبى أن يُغلق لبطل لا يعرف الهزيمة، ولذا كان من جديد في العمل الفدائي بعد تنفيذ عملية القطار في بيت جالا في العام 1964، وعلى قاعدة لا استقالة من الكفاح مضى الشلف في ذات الدرب حتى هُدم بيته مرتين وأعلن أنه توفي وصُلّي عليه صلاة الغائب في العام 68، وأبعد عن فلسطين في العام 1972 من قبل الاحتلال إلى الأردن حَيثُ بقي هناك حتى عاد مع السلطة الفلسطينية في العام 1994، ليلقى ربه في أرض الخليل التي قاد الثورة فيها وشهدت تلالها ووديانها ملاحم جهاده وبطولاته.
رحل الشلف عام 2002 شاهدا على كفاح قرن من الزمان والبطولة.. رحل ولا تزال أخبار بطولاته وحكومته الثورية مناراً للأجيال المُقاتلة لأجل حُرية فلسطين.
المراجع:
1- فلسطين في سيرة بطل: عبد الحليم الجيلاني، د. حسن صالح عثمان. العنقاء 2002 2- بطولات عربية من فلسطين، عيسى الناعوري وإبراهيم القطان. المطبعة الوطنية – عمان 1956 3- سجل القادة والثوار والمتطوعين لثورة 36-39، د.مصطفى كبها ود. نمر سرحان. دار الهدى 2009. 4- مذكرات المجاهد داود القاسمي عن ثورة 36-39، مذكرات غير منشورة.