شبكة قدس الإخبارية

كيف ترجل فارس المواجهات؟

شذى حمّاد
رام الله – خاص قدس الإخبارية: ورقة بيضاء صغيرة كانت تحتضن يداه، وقال "سأتحدث بخطاب اليوم"، دار دورتين حول نفسه، خرج ثم دخل مجددا، لمح أفرادا من أسرته يجلسون بين الحضور في مهرجان التأبين، فقال لأصدقائه، "سأسبقكم إلى المواجهات". مرتديا قميصا أسودا يحمل صورة صديقه الشهيد أحمد شراكة في ذكرى استشهاده الأولى، تقدم فارس البايض (١٦ عاما) ولم يخلع قميصه ليتلثم به كالمعتاد. احتدت المواجهات أمام مستوطنة "بيت أيل" المقامة شمالي مدينة البيرة، في النصف ساعة الأولى من اشتعالها، الحجارة تنهمر على جنود الاحتلال من كل جانب، والجنود يردون بالرصاص.. وفجأة سقط فارس. أمام منزلها كانت تقف إيمان حينما سمعت صوت الرصاص، انقبض قلبها وهام خيال فارس أمامها، فردت نفسها قائلة "الله يستر.. أكيد فارس بخير، هو وعدني أنه لن يطيل بالخارج وسيعود سريعا". برصاص قناص أصيب فارس، فيما أصدقائه فشلوا من سحبه سريعا، فالقناص ما زال ينتظر أن يطل شابا آخرا ليقنصه، "ندهنا عليه، لكنه لم يجب.. خمسة دقائق ولم نستطع الاقتراب منه" يقول مسلم غوانمة لـ "قدس الإخبارية". فارس لا يرد على نداءات أصدقائه، فيما بدأت بقعة دم كبيرة تنتشر وتتسع تحته على الإسفلت، ليتخذ خمسة من الشبان قرار التقدم السريع نحوه، "رفعت يده لكنها سقطت، حاولت التأكد من نبض دمائه إلا أنني لم أشعر بشيء.. تأكدت حينها أن فارس استشهد". سقط فارس في غيبوبة منذ إصابته في ١٥ تشرين ثاني، ولا أمل لدى الأطباء أن يصحو مجددا فالرصاصة حطمت دماغه، فيما تشبث فارس بالحياة قد ما استطاع، وبقيت والدته تتشبث بالأمل أن يعود نجلها للحياة مجددا. حان وقت مغادرتها الغرفة، دارت والدة فارس ظهرها، فهيأ لها أنه فتح عينيه، فعادت إليه مرة أخرى تتوسل إليه أن يصحو، "لماذا يا فارس تغمض عينك كلما رأيتني؟ ماذا تريد يا فارس؟ .. يلا ناديني، تكلم معي". رغم إقناع الأطباء لإيمان أن الحالة الصحية لفارس في تراجع مستمر، وخاصة أنه لا يستجيب للعلاج ولا يبدي أي ردة فعل للمؤثرات الخارجية، إلا أنها بقيت ترفض كل ما يقال. "كان عندي أمل كبير أن يصحو فارس مجددا، عندما كان يسمع صوتي يحرك رأسه، وعندما أحدثه كان يفتح عينه ينظر إلي ثم يعود وينام.. كان يشعر بي"، تقول إيمان لـ "قدس الإخبارية". إيمان كانت ترى ما لا يراه الأطباء، فقد كانت تشعر بعيني فارس تتأمل بها وتلاحقها، وكانت تراها تدمع، فتقترب منه وتمسح دمعه، "عندما كان الطبيب يفحص فارس، كان يقول لي أنه لو يوجد تحسن لحرك عينيه.. كنت انكز فارس وأطلب منه أن يعطي أي إشارة للطبيب حتى يزيل الجهاز عنه". في ٢٣ كانون أول، وصلت ايمان المشفى فوجدت على غير العادة باب العناية المكثفة مفتوح، والأطباء يحيطون فارس، "جلست انتظر بالخارج وأقول فارس بخير، لكني شعرت بشيء انتزع من قلبي وأوجعني، وجسدي أصبح باردا جدا.. وبعد قليل عرفت أنه فارس قد استشهد". علبة "شوكو" كان يحضر فارس لأمه كلما تأخر بالعودة إلى المنزل، متوسلا لها أن لا تخبر والده، "كنت أميزه بمصروفه عن أخوته، وأدخر له، فهو كان يحب الذهاب إلى مقهى الانترنت في المخيم، ولم أكن أرفض له طلبا". وتروي إيمان أنها كانت تقلق عليه كثيرا وتبحث عنه في المخيم كلما طالت غيبته، "دخلت مقهى الانترنت في أحد الأيام، فغضب فارس مني وسألني ماذا أفعل هنا.. قلت له أريد كل الناس يعرفوا أني أنا أم فارس". مشاغبا كان فارس، ولكن محبوبا، خفيف الظل، حاضرا دائما ليساعد عائلته وأصدقائه في مناسباته "كان يجلس قرب النادي ينتظرنا.. اليوم نمر من هناك فلا نجد فارس كما اعتدنا" يقول مسلم لـ "قدس الإخبارية". لم يكن يمر يوما دون أن يزور فارس قبور الشهداء ثم يعود ويقول لأصدقائه "أريد أن استشهد"، "كنا أنه جاء في الدنيا ليستشهد.. هو جاء ليوصل لنا رسالة ثم يذهب" يقول صديقه مسلم. فارس لم يغب يوما عن المواجهات التي تندلع باستمرار قرب مخيم الجلزون، كما لم يكن يرض ألا أن يدور حول الجنود، ويلقي عليهم الحجارة من الخلف، ويؤكد أصدقائه أنه أصيب عدة مرات بأعيرة معدنية ولكن كان يخفي ذلك على عائلته. وفي إحدى الليالي، وبعد إلقاء الاحتلال منشورات تهديدية لأهالي المخيم، لمنع أبنائهم من المشاركة بالموجهات، صعد فارس فجرا وبحوزته ستة زجاجات حارقة، ألقاها اتجاه مستوطنة بيت أيل ما أدى لاشتعال البرج العسكري، فقبل أن تغفو عينيه أصر فارس الرد على تهديدات الاحتلال. قدورة لأقرانه كان فارس، فيبين أصدقائه أنه كان يوجههم وينصحهم، "كان يمنعنا من السخرية من أحد، وعندما كان يرى أحد يحتاج مساعدة وخاصة المسنين كان فورا يساعد.. مثال للخير كان لنا فارس وسيبقى".