شبكة قدس الإخبارية

أحمد الريماوي.. انتظر تحرر والده ليزفه شهيدا

ديالا الريماوي

رام الله- خاص قُدس الإخبارية: هادئٌ على غير عادته، يغلق نصف عينيه وكأنه يريد أن يراهم للمرة الأخيرة، لا يستجيب لصرخات أصدقائه، صامت لا يرد على تساؤلاتهم: "هل مات حقا أحمد؟!"، جسده المسجى بالدماء جعلهم يدركون أن الرصاصة التي اخترقت صدره، قتلته بعد أن حقق حلمه برؤية والده الذي تحرر من الأسر قبل ثلاثة أشهر.

في منتصف سبتمبر الماضي، كان الفتى أحمد زيداني (17 عاما) الملقب بـ"حِدري" يجلس في بيت جدته الكائن في قرية بيت ريما شمال غربي رام الله، عندما هاتفهم والده حازم من سجن النقب ليزف لهم خبر استعداده للإفراج عنه قبل خمسة أيام من موعده المقرر، والذي كان يصادف يوم "وقفة عرفة"، وطيلة تلك السنوات عاش أبناء حازم الأربعة في بيت والدته وفي كنف أشقائه.

مبتهجا كان أحمد، فهو أخيرا بعد 14 عاما ونصف سيلتقي مع والده الذي سيعوضه عن كل ما فاته. كان برفقة الشباب يزين ويستعد لاستقبال والده، وما أن وصل القرية حتى حمله على أكتافه وزفه بين جموع الناس.

اليوم الأخير

صباح يوم السبت السابع عشر من الشهر الحالي، كان أحمد يجلس بين أفراد عائلته يستعدون لحفلة شواء مع أعمامه وجدته، وفي ذلك النهار لم يغادر المنزل بل فضّل البقاء برفقة عائلته يمازحهم ويترك لهم أجمل الذكريات.

بعد غروب الشمس، استحم أحمد وتعطر وارتدى البيجامة التي يحبها وكان يهم للخروج برفقة جدته لمنزلها، لكن والده أخبره أن الحصان الذي اشتراه له حديثا قد ضاع وعليهما أن يبحثا عنه، وبعد العثور عليه طلب من والده أن يركبه ويذهب إلى البرية، لكنه رفض خوفا عليه من الانزلاق.

خرج أحمد إلى المقهى، وهناك التقى بأصدقائه محمود وعماد الريماوي، وبدأ محمود بالتقاط الصور لهم، وعندما جلس بجانب عماد قال له: "هذه الصورة بتلزمك يا خوي"، وغادروا بعدها المقهى.

في الطريق التقى أحمد ومحمود بصديقهم أسعد الريماوي، وقبل ذهابه للمنزل أعطاه أحمد سماعات الهاتف ومسبحة، وطلب منه أن يحتفظ بهما.

في الساعة التاسعة مساء، هاتف حازم نجله أحمد وطلب منه أن يعود للمنزل، وبعد أن تأخر نصف ساعة هاتفه مجددا، فأخبره أنه دقائق وسيكون في المنزل، لكنه كان يرغب بالنوم في منزل جدته، فهاتفها وطلب منها أن تحضر له الغرفة، ليتصل بعدها بخالته نفين ويطلب أن تقنع أبيه بالموافقة على بقائه عند جدته.

علم أحمد قبل وصوله لمنزل جدته أن قوات الاحتلال اقتحمت القرية، ليتجه فورا إلى الشارع الرئيسي، وفي طريقه صادف صديقه عصام الريماوي الذي كان عائدا إلى منزله، استوقفه أحمد وناوله من جيبه بضعة شواقل، وأراد أن يعطيه هاتفه لكن عصام رفض خوفا من ضياعه.

يقول عصام لـ"قدس الإخبارية": "أحمد طلب من جميع الشباب في ذلك اليوم أن يسامحوه وكأنه كان يشعر، وودعنا بطريقة غير مباشرة، فترك معنا أشياء تخصه".

توجه أحمد إلى أول القرية ظنا منه أن جنود الاحتلال يتواجدون هناك، وبعد انتظار توجه إلى وسط البلد حيث كانوا يتواجدون، وبدأ بإلقاء الحجارة نحوهم.

"الحدري" شهيد

بينما كان أحمد يطلب من الشبان التراجع، نظرا لكثافة الرصاص الحي، قامت إحدى المجندات التي كان يخيفها تقدم أحمد بقنصه بينما كان يهم بالاختفاء، فأصيب برصاصة اخترقت صدره وخرجت، ليقع أرضا ويرتقي شهيدا.

لم يكن أحمد يهاب شيئا، حتى الموت لم يكن يخشاه، فهو في أكثر من حادثة استطاع أن ينجو بحياته وكأنه أبى إلا أن يموت شهيدا.

رغم زخات الرصاص، حمل الشبان أحمد ونقلوه إلى مستشفى سلفيت الحكومي، وهناك هاتفوا والده وأخبروه بأن أحمد مصاب، ولأنه لم يصدق الخبر اتصل بوالدته وطلب منها الذهاب لغرفة أحمد والتأكد إذا ما كان موجودا.

في القرية، التقى أسعد بأحد أقاربه وأخبره أن أحمد استشهد، ليغضب ويبدأ بالصراخ: "لا تقولها مجددا، أحمد قوي، مش الرصاصة اللي بتأثر فيه".

قبل وصول المئات من أهالي القرية لمستشفى سلفيت، كان أسعد قد تمكن من وداع صديقه، أما والده كان طيلة الوقت صامتا ويمسح وجه ابنه، حتى وصل صديقه محمود الذي أخبروه بأنه مصاب وسأل: "وين حِدري؟ فأخبره أسعد بأنه استشهد ليصرخ ويبكي" لا أحمد ما استشهد..هاد مش أحمد انتو بتكذبوا علي"، لكن أسعد أمسكه سريعا عندما رأى دمعة والده وأخرجه من الغرفة.

صباح الأحد، انطلق موكب التشييع من المستشفى، وما أن وصل القرية حتى بدأ المطر ينهمر فوق المشيعين الذين ينتظرون وصول جثمانه إلى منزل جدته، دون أن ينسحب أحد.

أحمد نال الشهادة التي كان يتمناها، فهو كان يكرر دوما: "أنا بستنىى ليطلع أبوي بعدين رح أفرحكم..يا بنسجن أو بستشهد" وأوصى عائلته أنه إذا استشهد يريد أن يزف من منزل جدته، فكان يقول: "زفة عرسي أو شهادتي رح تكون من بيت ستي".

في جنازة مهيبة شارك فيها الآلاف، ومشاعر الغضب والحزن تسيطر على الجميع، فأحمد المشاكس والحنون الذي تعرفه كل القرية وتحبه خطفته رصاصة من حضن والده الذي كان يحلم بأن يراه عريسا.

قبل أن تنطلق الجنازة من مسجد القرية، كان أسعد يجلس جانبا يبكي ليدرك أن ما تبقى له نصف ساعة فقط ليرى صديقه للمرة الأخيرة، وقبل أن يوارى جثمانه الثرى ظل أسعد يقف بجانب الجثمان ويضع يده على وجه صديقه، "كنت بدي أشبع منه، قلت هاي أخر مرة رح أشوفه فيها لازم أودعه" يقول أسعد.

غياب الشجاع والحنون

أحمد يصفه أصدقاؤه وعائلته بأنه شاب شجاع، قوي القلب وفي الوقت نفسه يملك قلب طفل، حنون يحب مساعدة وخدمة الجميع، يحترم الكبير ويعطف على الصغير، كان يصالح من يغضب منه، كان متعلقا بابنة شقيقه عطا.

يقول أصدقاؤه: "أحمد كان يضحك دائما، إذا كان منزعجا يخفي ذلك بضحكته، إذا طلبنا منه شيئا ولم يكن يملكه يوفره حتى لو اضطر للعمل ساعات طويلة، إذا وقعنا في مشكلة نجده بجانبا دائما، يحب الذهاب إلى البرية ليلا، أحلامه بسيطة كان يريد أن يتزوج".

كان أحب الناس إلى قلبه جدته، فكان دائما يضع يده على رأسها ويقول لها: "ايدي على راسك ما بتحبيني؟"، كما كان يحب مرافقة زوج عمته إذ كان من المقربين إليه، فهو كان دائما ينصحه لا سيما فيما يتعلق بمشاركته في المواجهات، لكن أحمد كان يقول له: "أنا بدي أكتب تاريخ.. بدنا الحرية".

غياب أحمد الأبدي حقيقة تأبى عائلته وأهالي القرية تصديقها، فهو كما يصفه الجميع الضحكة التي غابت، أما والده فهو يتمنى أن يستيقظ من كابوسه ليجد طفله أمامه، يقول: "أحمد بالنسبة لي الابن والصديق، في القرية ما في حد مثله بطيبة قلبه وشجاعته".

https://youtu.be/vA3NLKeBFUA