بيت لحم- خاص قُدس الإخبارية: في طريقها من بيت لحم إلى القدس، كانت سعيدة بأنها ستزور المدينة المحتلة وتصلي في المسجد الأقصى، لكنها لم تكن تعلم أن رحلتها لن تكتمل وسيحدث ما لم تتوقعه يوما، فتلك الطفلة التي كانت تمارس طفولتها تمرح وتلعب وتملأ ضحكتها أرجاء المنزل، وجدت نفسها أسيرة خلف قضبان السجن يتحكم السجان بحياتها.
التاسعة صباحا، في الثالث عشر من نيسان الماضي خرجت نوران أحمد البلول (15 عاما) برفقة عمتها من بلدة الخضر غرب بيت لحم للتوجه إلى مدينة القدس، على حاجز "قبة راحيل" تمكنت العمة من المرور عن آلة كشف المعادن، وعندما جاء دور نوران أصدرت الآلة صوتا، لتأمرها مجندة إسرائيلية بالوقوف جانبا من أجل تفتيشها.
لم تعارض نوران، لكنها طلبت من المجندة أن تتم عملية التفتيش داخل غرفة وليس أمام المارة، لكن المجندة رفضت، ودار جدال بينهما وخلال ذلك أمسكت المجندة بقميص نوران وأرادت أن تخلعه، فما كان منها إلا أن تدفع المجندة.
بدأت المجندة تصرخ بالعبرية "مخربة سكين" ليحيط جنود الاحتلال بنوران ويصوّبون أسلحتهم نحو رأسها، فبدأ الشبان الموجودون بالصراخ "لا تطلقون النار، الطفلة ليس بحوزتها شيء"، فيما كان القناص يأخذ وضعية الإطلاق حتى وصلت الشرطة الإسرائيلية وقامت بتقييد قدميها ويديها ونقلها إلى مكتب مخابرات الاحتلال الإسرائيلي في "قبة راحيل".
بقيت نوران في مكتب "الشاباك" بضعة ساعات، حقق معها أربعة محققين، وجهوا لها تهمة "حيازة سكين" وأنها كانت تنوي تنفيذ عملية انتقاما لوالدها الشهيد أحمد البلبول الذي تم اغتياله عام 2008.
حاول المحققون انتزاع اعتراف منها، لكن نوران رفضت هذا الاتهام، فيما بدأ المحقق يهدد ويشتم إلا أن ذلك لم يخيفها وبقيت تقول إنها بريئة من تهمتهم، فقام المحقق بالإمساك بها ودفعها خارج الغرفة قائلا لها: "لأول مرة أفشل في انتزاع اعتراف، سنرسلك إلى تحقيق المسكوبية".
في المسكوبية، تم نقل نوران إلى زنزانة صغيرة جدا، وصفتها بـ"ثلاجة الموتى" من شدة البرودة، وبعد برهة من الزمن التقت مع محامي جاء للاطمئنان عليها وإعلامها أن ستخضع للتحقيق بعد قليل، وهناك تم التحقيق معها 24 ساعة متواصلة، إذ كان يتواجد في الغرفة محقق وامرأة ومترجم، لتدرك فيما بعد أنهم محققون.
حاول المحققون انتزاع اعتراف من نوران من خلال الصراخ والضرب على الطاولة، وتكرار التهمة أنها جاءت للانتقام لوالدها، وحاول المحقق الضغط عليها فقام بعرض مقطع فيديو لحظة اغتيال والدها حتى تنهار، لكن على العكس تماما المشاهد التي عُرضت عليها زادت من عزيمتها وقوتها.
تفاجئ المحقق من قوة نوران وتطابق أقوالها رغم الضغط النفسي، فقال لها:" أنت فتاة ذكية وقوية، تدركين كيف يجب أن تتحدثي معنا، أنت خطر على أمن دولة إسرائيل"، فأجابته:"لست أول طفلة يتم اعتقالها هناك مئات الأسرى في سجونكم، نحن جيل صامد وصابر، هل تعتقد أنك ستجعلني أبكي، أنا لا أشكل أي خطر عليكم، اعتقلوتني أثناء الطريق، واتهمتوني بمحاولة الانتقام لوالدي، لكنه استشهد وربنا هو من سيحاسبكم".
عذابات الأسر
في اليوم التالي تم نقل نوران إلى سجن "هشارون"، وعند دخولها الغرفة داخل قسم "الزهرات" تفاجئت بوجود أسيرتين قاصرتين إحداهما حكم عليها بالسجن ثلاث سنوات.
البوسطة، تصفها نوران بعذاب آخر من عذابات الأسر، وقبل أن يتم إصدار الحكم بحقها كانت تنتقل من السجن إلى المحكمة عن طريق البوسطة، فهي تشبه ثلاجة صغيرة مقاعدها حديد وباردة جدا.
تقول:"كنت أقول بداخلي احكموني 100 سنة ولا انتقل يوما في البوسطة، في إحدى المرات شعرت بأني سأموت، الجو كان ماطرا والتكييف وضع على أدنى درجة، بدأت بالبكاء والصراخ فقام أحد جنود "النحشون" بضربي في سلاحه على خاصرتي وبدأ الجنود بالصراخ "اخرسي"، في حين أن الأسرى بدأوا بالصراخ عليهم".
خلال محاكمات نوران والتي استمرت طيلة شهر ونصف، كان القاضي في أغلب المرات يقول إنه بناء على التهمة الموجهة لها الحكم سيكون ما بين سنة وسنتين، فكانت نوران تشعر بالاحباط والحزن لأنها ستمضي تلك الفترة في السجن بعيدة عن والدتها وشقيقيها".
في أول محكمة لها كانت نوران تتجنب النظر إلى والدتها وشقيقيها، حتى لا تبكي أمامهم كانت تحاول طيلة الوقت أن تكون صامدة، وكذلك حتى لا تظهر ضعفها اتجاه عائلتها أمام القاضي والجنود.
حلم!
حكمت المحكمة على نوران بالسجن أربعة أشهر، وذلك بعد تحركات والتوصل إلى صفقة، لكنها لا زالت تشعر أنها بين جدران السجن وذلك بسبب الأوهام التي حاولوا زرعها بداخلها أنها ستمضي سنة أو سنتين في الأسر، رغم ذلك فهي تؤمن أنها معتقلة ظلما وكان من الفترض أن تلعب وتجلس على مقاعد الدراسة وليس في سجون الاحتلال.
أربعة أشهر، في كل يوم كانت الثانية تمر على الأسيرات كأنها سنة، أجواء من الحزن تخيّم على أقسام الأسيرات خاصة القاصرات منهن، فكلمات نوران تعجز عن وصف السجن وعذابه، لا سيما العذاب الأكبر فيه وهو الاشتياق للعائلة.
في الأسر، حلّ شهر رمضان وجاء العيد ونوران خلف قضبان السجن تجلس على طاولة الفطور بين أسيرتين يواسين بعضهن بأن فجر الحرية قريب، لكن بداخل كل أسيرة حزن ووجع لا تحمله جبال، فأكبر أحلامهن أن يجتمعن مع عائلتهن على طاولة المائدة، أن يسمعن تكبيرات العيد.
تقول نوران:" في عيد الفطر بكت الأسيرات القاصرات كن يتأملن بالإفراج عنهن لقضاء الوقت مع عائلتن ويلبسن ملابس العيد". في يوم تحررها، جاء السجانون ونقلوها بالبوسطة كانت تعتقد أنها نقلت إلى المحكمة عن طريق الخطأ، وهناك قرر القاضي الإفراج عنها عقب تقديم استئناف من قبل محامية هيئة شؤون الأسرى والمحررين.
تقول نوران:" الحرية أجمل شيء، الأسرى والأسيرات وخاصة الأطفال رسالتهم للعالم بأن حلمهم بسيط وهو الحرية"