"الحياة موجودة، لحظة الاستشهاد لا تنتهي"
09 آذار 1978 صباحًا
(آخر صورة وآخر نظراتٍ)
خرجنا سويةً من البيت، وكانت قبلها قد أخبرتني أن اليوم سيتم تحركهم عبر بحر الجنوب اللبناني، تمشينا فلحقنا صوت أمي عبر النافذة، التي كانت بمستوى الأرض، "أنا عاملة لوبيا ارجعوا اتغدوا"، ككل أمٍ تعلم هذه المرأة الأكلة المحببة وفاتها أن تعلم أين تتجه البنت بالضبط، تعلم أنها ستغيب لأيامٍ، لمجردِ أيامٍ، ولم تعلم ما ستحققه فيها، بينما استدرتُ نحو محاولة اللحاق بصوت أمي، وبجانبي طأطأت رأسها وأكملت السير.
توقفنا عند أستوديو جامعة بيروت العربي، وأخذت صورتها تلك، الصورة الأكثر شهرة، وآخر صورة، الصورة الرمز التي لم تخرج إلى النور إلا وهي تحط قدميها لأولِ مرة على شاطئ فلسطين (حيفا).
11 آذار 1978
(الرحال التي تحطُ إلى الموت ليحيا الوطن، الحرية والعدالة)
بدأت الرحلة، العملية، القيادة، وصناعة الأسطورة وإرباك العدو والتنكيل به، بدأت طريقة الشهادة، وكذا طريق الحياة، فالحياة موجودة، لحظة الاستشهاد لا تنتهي.
وليس كالعادة كانت امرأة تقود اثني عشر فدائيًا من فلسطين ولبنان واليمن، صف واحد وقلبٌ واحدٌ، عبر قاربٍ مطاطي عرض البحر للوصول إلى "الكنيست الإسرائيلي".
في الفترة الأخيرة أخبرتني أنها تتلقى تدريبات لعمليات خاصة، كنا قريبتين للغاية، انضممنا لنفس المعسكرات القتالية، ونعلم كل صغيرة وكبيرة عن بعض، ولكن "جهاد الوزير" قد اختارها للعملية ولم يخترني، توجهت إلى المكتب قبل موعدٍ قصير منها، ترجيته أن يأخذني، فقال بأنني لو لم أتراجع سيمنعها هي أيضا من العملية، لسبب أنني مصابة في الحروب السابقة، ألقت علي نظرة: "بتريدي أنو يمنعني؟"
لقد وهبت نفسها للحياة، دائمة الوجود بذاكرتي، ذاكرة أسرتنا وذاكرة أبناء شعبنا الشرفاء، آمنت أن العدالة والحرية من أهم مقومات الإنسان، بالفعل نحن عائلة مقيمة بلبنان لكن انتمائنا الروحي إلى فلسطين، وطنٌ محرومون منه.
في 11 من آذار، كان الوصول إلى الشواطئ الفلسطينية بعد يومين عبر البحر، حطوا على رمال فلسطين، احتجزوا سيارة ثم باصا صغيرا، من ثم باصا كبيرا، وقطعوا حاجزين، متجهين نحو مبنى الكنيست الإسرائيلي لاحتجاز رهائن من أجل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين،.
الجيش الإسرائيلي جهز حاجزا ثالثا قويا ومنتشرا بشكلٍ كبير بالإضافة للطائرات، وبدأت إذاعة صوت الثورة الفلسطينية، تبث البيان الأول ثم الثاني والثالث، ثم أعلنوا عن انقطاع التواصل مع فدائيي العملية.
في تلك اللحظة بالذات عرفت أن شقيقتي دلال استشهدت، وأنا أعود إلى البيت سألني والدي، "هل تعرفين أحدا من الفدائيين؟"، ولكنني كنت أضعف وأشد دهشة من التلميح عن الموضوع، لم أنم ليلة كاملة وأنا أتوقع صباحًا تفوح منه رائحة استشهاد أختي، وعالم سيستقبل أسطورة تدعى "دلال المغربي".
اليوم التالي بعد العملية، لم يكن غيري في البيت يعرفُ بحدسه عن استشهاد دلال، الشعور المختلط بالفخر وبالخوف على الأم والإخوة، وبعد خروج أخي محمد وعودته بصورة فوتوغرافية من نوعِ "A4 " عليها دلال في إحدى التدريبات، يردد على أمنا أن هذه صورة دلال، والتي استشهدت البارحة في العملية، أمسكت والدتي الصورة:
"لأ هاي مش دلال، لا لا هاي مش بنتي، شو جاب لجاب" تُنقب في الصورة وتعيد مرة أخرى، حيث اُلتقطت هذه الأخيرة أثناء إحدى التدريبات، تحمل فيها سلاحا وترتدي بدلة التدريب مع كوفية، ويعود الصوت "لأ هي مش دلال لا لا"، في لحظة بدت مصدقة أنها بالفعل كانت الفلذة التي تشعلُ فيها نار الفراق الأبدي، وجزءًا من قلبها وأنها بالفعل، بداية الأسطورة "دلال المغربي"، وهكذا شدت أمي شعرها بينما كانت دلال تشدُ بيدها روحها ذهابا نحو العدالة التي حلمت بها.
في تمام الساعة الحادية عشر نهارا، كان "أبو عمار" و"جهاد الوزير"، وهذه الشخصيات الفلسطينية، وفلسطينيو لبنان مجتمعين أمام البيت، مازلتُ أحتفظ بصورة أبو عمار يحمل اثنين من إخوتي الصغار، كلا منهما على ركبة ويجلس جلسة الفخر، ثم يقول: "هذا البيت فخرٌ لنا أنه أنجب هذه البطلة".
"دلال ولدت مرتين، لحظة الولادة الطبيعية ولحظة الاستشهاد ولادة ثانية"، تواصل العميدة رشيدة المغربي.
"استقلالية القرار الفلسطيني تحميه بنادق الثوار"
دلال المغربي، بنتُ اللد، مواليد مخيم صبرا 1958، أول قائدة لعملية عسكرية داخل الاحتلال، ومن أخطر عمليات المقاومة "عملية الساحل"أو كما أطلق علها "عملية الشهيد كمال عدوان"، من فدائيي فرقة دير ياسين، التي أسفرت عن 30 قتيلا، وأكثر من 80 جريحا في صفوف العدو، وباستشهاد 11 من الفدائيين، دلال التي لم يصدق إيهود باراك أنها قائدة العملية عندما أشار إليها أحد الفدائيين الناجيين، عندما سأله عن القائد، فلم يصدق أنها امرأة وقام بضرب بجثتها مرارا والتأكد من أنها بالفعل امرأة، امرأة لم تتعدى العشرين من عمرها، لكن تعدى حب الوطن فيها حب الحياة، أو كما قالت رشيدة شقيقتها: "الحياة موجودة، لحظة الاستشهاد لا تنتهي"، وغدت كما قال عنها الكاتب إلياس خوري "وردة فلسطين".
كان من المفترض أن يسلم العدو الإسرائيلي رفات جثمانها في صفقة عقدها حزب الله اللبناني لتبادل للأسرى عام 2008، ولكن بعد استرجاع الرفات أثبتت تحاليل الحمض النووي أنها لا تعود لدلال، ولليوم لم يتم استرجاعها بعد.
ما تبقى لنا منها، " وصيتي لكم جميعًا أيها الاخوة حملة البنادق، تبدأ بتجميد التناقضات الثانوية، وتصعيد التناقض الرئيسي ضد العدو الصهيوني، وتوجيه البنادق كل البنادق نحو العدو، استقلالية القرار الفلسطيني تحميه بنادق الثوار"
- كل ما جاء على لسان شقيقة دلال المغربي، رشيدة المغربي.