شبكة قدس الإخبارية

أحمد أبو الرب: عذرا أمي.. شهيدا أريد أن أكون

ديالا الريماوي

جنين- خاص قُدس الإخبارية: وقفت على عتبة باب منزلها في بلدة قباطية جنوب جنين تلتقط له صورا، دون أن تعلم أنها ستكون الأخيرة، لم تلحظ في حينها أن عينيه حمراوتان مغرورقتان بالدموع التي يحاول جاهدا أن يخفيهما عنها، أما هو فأراد أن يختصر الوقت الذي يمر ببطئ وهو يقف معها، يتجنب النظر في عينيها ليمسك حقيبته ويغادر مسرعا لا يستجيب لندائها.

فرحة بعد طول انتظار

تعود إيمان صالح بذاكرتها تسعة عشر عاما، عندما رزقت بابنتها رقية بعد انتظار دام اثني عشر عاما، لتنجب بعدها بعامين ولدا أطلق عليه والده عوض أبو الرب اسم أحمد آملا أن يكون ابنا صالحا.

تقول إيمان: "عندما أنجبت أحمد سجدنا أنا ووالده في المستشفى شاكرين الله، وعندما كان في ربيعه الثاني، وجدت نفسي أقول لزوجي لو نرزق بابن ثان، فأجابني: "بعد كل تلك السنين قولي الحمدلله الذي رزقنا بابن وابنة".

ردت إيمان: "نحن في أرض الجهاد، قد يستشهد أحمد! أريد أن يكون لدينا ابن آخر".

بعد أربعة أعوام من ولادة أحمد، أنجبت إيمان أخا له أسمته محمد، كبر الأطفال الثلاثة في كنف والديهم، وبعد عامين توفي والدهم، لتصبح والدتهم بمثابة الأم والأب لهم.

لم ترغب إيمان بأن يكبر أحمد بسرعة ويتحمل مسؤولية العائلة، فكانت طفولته تتسم بالهدوء والجرأة وحسن الخلق والابتسامة الدائمة، إضافة لأنه كتوم. كما أنه كان يصادق في الغالب من هو أكبر منه سنا ليعوض غياب والده.

13479308_10208653809359259_1510412059_n

طيلة الستة عشر عاما من حياته لم يخطط أحمد لمستقبله، لكن مع بداية السنة الدراسية قرر أحمد دراسة الشريعة الإسلامية بعد أن ينهي الثانوية العامة هذا العام، فكانت والدته سعيدة باختياره.

على درب الشهادة

مع بداية الانتفاضة، تغيّر أحمد كثيرا فأصبح يتابع القنوات الإخبارية، وبدأ الحزن يظهر عليه لا سيما عقب استشهاد ثلاثة من أبناء بلدته خلال أقل من 20 يوما، اثنان منهم زملائه في "التوجيهي" هما: أحمد كميل، ومحمود نزال.

يوم الجمعة (30/10/2015)، وقف أحمد على باب المطبخ حيث تتواجد والدته، وسألها دون مقدمات عن الشهداء ودرجات الشهادة، رغم أنه بحث عبر الانترنت عن الموضوع، وهو ما اكتشفته شقيقته لاحقا.

سأل والدته إذا ما كان الشهيد يُحشر مع الأنبياء، فأجابته بلى، لكن يا أحمد إذا كانت نيته الشهادة لوجه الله، أما إذا كان يريد أن يقول عنه الناس "بطل"، فقال لها: "شو بده الواحد بكلمة بطل".

واصل حديثه: "صح والدة الأيتام بتدخل الجنة"، فردت عليه نعم مستشهدة بحديث للنبي محمد، وما إن انتهت حتى ابتسم، فأدركت والدته ما يفكر به، قالت: "يا أحمد أمضيت عمري وأنا حزينة، انتظرتك 14 عاما، لست ضد الجهاد، لكن أريد أن أفرح بك، أنتظر ذلك اليوم الذي تنهي دراستك لتتزوج وتنجب أطفالا".

13479887_10208653809839271_1404055931_n

منذ بداية الانتفاضة، كانت والدة أحمد تبكي على كل شهيد، وكانت تشعر بأن الحزن سيدخل بيتها، لكن أحمد أدرك بما تفكر به أمه فكان يطمئنها بحديثه.

فجر يوم الإثنين، أيقظت أم أحمد ابنها بناء على طلبه، صلّى الفجر ثم جلس على سريره يلعب بهاتفه دون أن يعلم أحد في حينها أنه يكتب وصيته الأخيرة.

13487863_10208653806119178_185383761_n

شهيدا كما أراد

مع شروق الشمس، طلب أحمد من والدته أن تعد له الإفطار، جلس يتناول وجبته بينما بقي محمد في غرفته رغم نداء والدته له، فقال لها إنه رأى مناما بكى فيه كثيرا، دون أن يقصص عليها منامه خوفا من أن يتفسر. ما حلم به محمد تفسر فيما بعد، وهو استشهاد جارهم محمد كميل.

على طاولة الطعام، دار الحديث الأخير بين أحمد ووالدته، وكان يحاول من خلاله أن يمُّدها بالصبر والقوة، فقال لها: "اليوم ستزور والدة الشهيد مهند الحلبي الجامعة الأمريكية، هل رأيتِ يا أمي كيف كانت قوية وصامدة خلال تشييع جثمان نجلها".

13479614_10208653808399235_1333062602_n

عندما أراد أحمد الخروج إلى المدرسة، استوقفته والدته على عتبة المنزل وطلبت منه إصلاح كاميرا الهاتف، وبعد أن انتهى أرادت أن تجربها فالتقطت له بضعة صور.

قبل ذهابه شعر بأن في جعبة والدته كلام لكنها لا تريد البوح به، وحتى يقطع هذا الشك، قال لها: "يا أمي سيأتي العصر معلم اللغة الإنجليزية ليعطيني درسا، ويوم الخميس سأخرج أنا وأصدقائي لشراء الملابس". فور انتهائه أمسك بحقيبته وغادر مسرعا رغم نداء والدته له بالعودة لأخذ مصروفه، فقد كانت تشعر أنه سيعود شهيدا ذلك اليوم.

وصل أحمد إلى مدرسته، وقبل توجه الطلاب للصفوف أخبر أصدقاءه بأنه سيذهب للعمل في المزارع، ليخرج بعدها من المدرسة برفقة صديقه محمود كميل يستقلان الباص ويترجلان قرب محطة بنزين.

المحطة لا تبعد سوى 150 مترا عن حاجز الجلمة، جلس محمود وأحمد على إحدى طاولات الكافتيريا وطلبا فنجاني قهوة، قبل أن يُفاجئا بقوة من جيش الاحتلال تقتحم المنطقة وتطرد كل من فيها بإلقاء قنابل الغاز صوبهم، إضافة إلى تحطيم كاميرات المراقبة.

لم يبق في المنطقة سوى أحمد ومحمود، حاصرتهما القوات وأمرتهما برفع أيديهما تمهيدا لتفتيشهما، استجاب محمود لأمر الجنود برمي السكين الذي كان بحوزته في حين أن أحمد رفض.

13487440_10208653809999275_223871600_n

وحسب شهود عيان راقبوا الموقف، فإن أحد الجنود المتواجدين على البرج أطلق النار على أحمد لكنه أصاب جنديا آخر كان يمسك به، موضحين أن مروحية نقلت الجندي فيما اصطحب الجنود أحمد خلف المحطة، حيث سُمع صوت إطلاق نار.

كانت أم أحمد منذ الصباح تتابع إحدى القنوات الإخبارية، فشاهدت خبرا عاجلا بأن أنباء أولية تفيد بارتقاء شهيدين من قباطية قرب "الجلمة". أمسكت الهاتف مسرعة لكن رعشة تسري في جسدها جعلتها تضعه، بقيت ترفع الهاتف وتغلقه مرارا حتى قررت أن تقطع الشك باليقين.

أجاب مدير المدرسة، سألته والدة أحمد عن نجلها إذا ما كان في صفه أم لا، فأخبرها بأن أحمد تغيّب اليوم هو وزميله محمود، أبت أن تصدق ما تسمع فقالت له: "ابني ما غاب، أحمد طلع على المدرسة وكان لابس شنطته".

المخابرات تتلاعب بأهله

احتجزت سلطات الاحتلال جثمان أحمد (52 يوما)، ومارست المخابرات الإسرائيلية لعبتها عندما علمت أن عائلته بات يساورها الشك بأنه مصاب، وذلك نظرا لعدم استدعاء والدته وأعمامه للتعرف على جثمانه، وأن ما حصل يوم استشهاده يبقى في دائرة المجهول.

تارة تقول المخابرات إنه مصاب ويتلقى العلاج في إحدى المستوطنات، وتارة تقول إنه أسير، حتى وكلت العائلة محامية وتأكدت من استشهاده، ليتم تسليم جثمانه في الثالث والعشرين من كانون أول وفق شروط معينة.

في جنازته ليلا، خرج الآلاف لتشييع جثمانه، وعندما وصل منزله لتودعه عائلته، استقبلته والدته كأسير محرر، اقتربت منه قبلته وهمست في أذنه: "الله يهنيك بشهادتك يا ماما، مبروك عليك الشهادة، والله يسامحك".